فصل: سورة فاطر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير النسفي المسمى بـ «مدارك التنزيل وحقائق التأويل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 60‏]‏

‏{‏إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ‏(‏54‏)‏ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آَبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا ‏(‏55‏)‏ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ‏(‏56‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏57‏)‏ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ‏(‏58‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏59‏)‏ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏إِن تُبْدُواْ شَيْئاً‏}‏ من إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم أو من نكاحهن ‏{‏أَوْ تُخْفُوهْ‏}‏ في أنفسكم من ذلكم ‏{‏فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلّ شَئ عَلِيماً‏}‏ فيعاقبكم به‏.‏

ولما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء والأقارب‏:‏ يا رسول الله أو نحن أيضاً نكلمهن من وراء حجاب فنزل ‏{‏لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِى ءَابَآئِهِنَّ وَلاَ أَبْنَائِهِنَّ وَلاَ إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء إخوانهن وَلاَ أَبْنَاء أخواتهن وَلاَ نِسَائِهِنَّ وَلاَ‏}‏ أي نساء المؤمنات ‏{‏وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ‏}‏ أي لا إثم عليهن في ألا يحتجبن من هؤلاء ولم يذكر العم والخال لأنهما يجريان مجرى الوالدين وقد جاءت تسمية العم أبا قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 133‏]‏‏.‏ وإسماعيل عم يعقوب، وعبيدهن عند الجمهور كالأجانب‏.‏ ثم نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب وفي هذا النقل فضل تشديد كأنه قيل ‏{‏واتقين الله‏}‏ فيما أمرتن به من الاحتجاب وأنزل فيه الوحي من الاستتار واحتطن فيه ‏{‏إِنَّ الله كَانَ على كُلّ شَئ شَهِيداً‏}‏ عالماً‏.‏ قال ابن عطاء‏:‏ الشهيد الذي يعلم خطرات القلوب كما يعلم حركات الجوارح‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى ياأيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ‏}‏ أي قولوا اللهم صل على محمد أو صلى الله على محمد ‏{‏وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً‏}‏ أي قولوا اللهم سلم على محمد أو انقادوا لأمره وحكمه انقياداً‏.‏ وسئل عليه السلام عن هذه الآية فقال ‏"‏ إن الله وكل بي ملكين فلا أذكر عند عبد مسلم فيصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين آمين، ولا أذكر عند عبد مسلم فلا يصلي عليّ إلا قال ذانك الملكان غفر الله لك وقال الله وملائكته جواباً لذينك الملكين آمين ‏"‏ ثم هي واجبة مرة عند الطحاوي، وكلما ذكر اسمه عند الكرخي وهو الاحتياط وعليه الجمهور‏.‏ وإن صلى على غيره على سبيل التبع كقوله «صلى الله على النبي وآله» فلا كلام فيه، وأما إذا أفرد غيره من أهل البيت بالصلاة فمكروه وهو من شعائر الروافض‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ أي يؤذون رسول الله، وذكر اسم الله للتشريف أو عبر بإيذاء الله ورسوله عن فعل ما لا يرضى به الله ورسوله كالكفر وإنكار النبوة مجازاً، وإنما جعل مجازاً فيهما وحقيقة الإيذاء يتصور في رسول الله لئلا يجتمع المجاز والحقيقة في لفظ واحد ‏{‏لَعَنَهُمُ الله فِى الدنيا والآخرة‏}‏ طردهم الله عن رحمته في الدارين ‏{‏وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً‏}‏ في الآخرة ‏{‏والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا‏}‏ أطلق إيذاء الله ورسوله وقيد إيذاء المؤمنين والمؤمنات لأن ذاك يكون غير حق أبداً، وأما هذا فمنه حق كالحد والتعزيز ومنه باطل‏.‏

قيل‏:‏ نزلت في ناس من المنافقين يؤذون علياً رضي الله عنه ويسمونه‏.‏ وقيل‏:‏ في زناة كانوا يتبعون النساء وهن كارهات‏.‏ وعن الفضيل‏:‏ لا يحل لك أن تؤذي كلباً أو خنزيراً بغير حق فكيف إيذاء المؤمنين والمؤمنات ‏{‏فَقَدِ احتملوا‏}‏ تحملوا ‏{‏بهتانا‏}‏ كذباً عظيماً ‏{‏وَإِثْماً مُّبِيناً‏}‏ ظاهراً‏.‏

‏{‏ياأيها النبى قُل لأزواجك وبناتك وَنِسَاء المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن‏}‏ الجلباب‏:‏ ما يستر الكل مثل الملحفة عن المبرد‏.‏ ومعنى ‏{‏يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جلابيبهن‏}‏ يرخينها عليهن ويغطين بها وجوههن وأعطافهن‏.‏ يقال‏:‏ إذا زلّ الثوب عن وجه المرأة أدنى ثوبك على وجهك‏.‏ و«من» للتبعيض أي ترخي بعض جلبابها وفضله على وجهها تتقنع حتى تتميز من الأمة، أو المراد أن تتجلببن ببعض ما لهن من الجلابيب وأن لا تكون المرأة متبذلة في درع وخمار كالأمة ولها جلبابان فصاعداً في بيتها، وذلك أن النساء كنّ في أول الإسلام على هجّيراهن في الجاهلية متبذلات تبرز المرأة في درع وخمار لا فضل بين الحرة والأمة، وكان الفتيان يتعرضون إذا خرجن بالليل لقضاء حوائجهن في النخيل والغيطان للإماء، وربما تعرضوا للحرة لحسبان الأمة فأمرن أن يخالفن بزيهن عن زي الإماء بلبس الملاحف وستر الرؤوس والوجوه فلا يطمع فيهن طامع وذلك قوله ‏{‏ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ‏}‏ أي أولى وأجدر بأن يعرفن فلا يتعرض لهن ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً‏}‏ لما سلف منهن من التفريط ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ بتعليمهن آداب المكارم ‏{‏لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِى قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ‏}‏ فجور، وهم الزناة من قوله ‏{‏فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ‏}‏ ‏{‏والمرجفون فِى المدينة‏}‏ هم أناس كانوا يرجفون بأخبار السوء عن سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقولون هزموا وقتلوا وجرى عليهم كيت وكيت فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين‏.‏ يقال‏:‏ أرجف بكذا إذا أخبر به على غير حقيقة لكونه خبراً متزلزلاً غير ثابت من الرجفة وهي الزلزلة ‏{‏لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ‏}‏ لنأمرنك بقتالهم أو لنسلطنك عليهم ‏{‏ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا‏}‏ في المدينة وهو عطف على ‏{‏لَنُغْرِيَنَّكَ‏}‏ لأنه يجوز أن يجاب به القسم لصحة قولك لئن لم ينتهوا لا يجاورونك‏.‏ ولما كان الجلاء عن الوطن أعظم من جميع ما أصيبوا به عطف ب ‏{‏ثُمَّ‏}‏ لبعد حاله عن حال المعطوف عليه ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ زماناً قليلاً‏.‏ والمعنى لئن لم ينته المنافقون عن عداوتهم وكيدهم، والفسقة عن فجورهم، والمرجفون عما يؤلفون من أخبار السوء، لنأمرنك بأن تفعل الأفعال التي تسوءهم، ثم بأن تضطرهم إلى طلب الجلاء عن المدينة وإلى أن لا يساكنوك فيها إلا زماناً قليلاً ريثما يرتحلون، فسمي ذلك إغراء وهو التحريش على سبيل المجاز‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏61- 73‏]‏

‏{‏مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا ‏(‏61‏)‏ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ‏(‏62‏)‏ يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا ‏(‏63‏)‏ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا ‏(‏64‏)‏ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏65‏)‏ يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا ‏(‏66‏)‏ وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ‏(‏67‏)‏ رَبَّنَا آَتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا ‏(‏68‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آَذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا ‏(‏69‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا ‏(‏70‏)‏ يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ‏(‏71‏)‏ إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ‏(‏72‏)‏ لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏73‏)‏‏}‏

‏{‏مَّلْعُونِينَ‏}‏ نصب على الشتم أو الحال أي لا يجاورنك إلا ملعونين، فالاستثناء دخل على الظرف والحال معاً كما مر ولا ينتصب عن ‏{‏أُخِذُواْ‏}‏ لأن ما بعد حروف الشرط لا يعمل فيما قبلها ‏{‏أَيْنَمَا ثُقِفُواْ‏}‏ وجدوا ‏{‏أُخِذُواْ وَقُتّلُواْ تَقْتِيلاً‏}‏ والتشديد يدل على التكثير ‏{‏سُنَّةَ الله‏}‏ في موضع مصدر مؤكد أي سن الله في الذين ينافقون الأنبياء أن يقتلوا أينما وجدوا ‏{‏فِى الذين خَلَوْاْ‏}‏ مضوا ‏{‏مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً‏}‏ أي لا يبدل الله سنته بل يجريها مجرى واحداً في الأمم‏.‏

‏{‏يَسْئَلُكَ الناس عَنِ الساعة‏}‏ كان المشركون يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت قيام الساعة استعجالاً على سبيل الهزء، واليهود يسألونه امتحاناً لأن الله تعالى عمى وقتها في التوراة وفي كل كتاب، فأمر رسوله بأن يجيبهم بأنه علم قد استأثر الله به، ثم بين لرسوله أنها قريبة الوقوع تهديداً للمستعجلين وإسكاناً للممتحنين بقوله ‏{‏قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً‏}‏ شيئاً قريباً أو لأن الساعة في معنى الزمان ‏{‏إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً‏}‏ ناراً شديدة الاتقاد ‏{‏خالدين فِيهَا أَبَداً‏}‏ هذا يرد مذهب الجهمية لأنهم يزعمون أن الجنة والنار تفنيان‏.‏ ولا وقف على ‏{‏سَعِيراً‏}‏ لأن قوله ‏{‏خالدين فِيهَا‏}‏ حال عن الضمير في ‏{‏لَهُمْ‏}‏‏.‏ ‏{‏لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً‏}‏ ناصراً يمنعهم‏.‏ اذكر ‏{‏يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِى النار‏}‏ تصرّف في الجهات كما ترى البضعة تدور في القدر إذا غلت، وخصصت الوجوه لأن الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده أو يكون الوجه عبارة عن الجملة ‏{‏يَقُولُونَ‏}‏ حال ‏{‏ياليتنا أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا‏}‏ فنتخلص من هذا العذاب فتمنوا حين لا ينفعهم التمني ‏{‏وَقَالُواْ رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا‏}‏ جمع سيد‏.‏ ‏{‏ساداتنا‏}‏ شامي وسهل ويعقوب جمع الجمع، والمراد رؤساء الكفرة الذين لقنوهم الكفر وزينوه لهم ‏{‏وَكُبَرَاءنَا‏}‏ ذوي الأسنان منا أو علماءنا ‏{‏فَأَضَلُّونَا السبيلا‏}‏ يقال‏:‏ ضل السبيل وأضله إياه، وزيادة الألف لإطلاق الصوت جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر، وفائدتها الوقف والدلالة على أن الكلام قد انقطع وأن ما بعده مستأنف ‏{‏رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب‏}‏ للضلال والإضلال ‏{‏والعنهم لَعْناً كَبِيراً‏}‏ بالباء عاصم ليدل على أشد اللعن وأعظمه، وغيره بالثاء تكثيراً لأعداد اللعائن‏.‏

ونزل في شأن زيد وزينب وما سمع فيه من قاله بعض الناس ‏{‏ياأيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين ءاذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ‏}‏ «ما» مصدرية أو موصولة، وأيهما كان فالمراد البراءة عن مضمون القول ومؤاده وهو الأمر المعيب‏.‏

وأذى موسى عليه السلام هو حديث المومسة التي أرادها قارون على قذفه بنفسها أواتهامهم إياه بقتل هرون فأحياه الله تعالى فأخبرهم ببراءة موسى عليه السلام كما برأ نبينا عليه السلام بقوله‏:‏ ‏{‏مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مّن رّجَالِكُمْ‏}‏ ‏{‏وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً‏}‏ ذا جاه ومنزلة مستجاب الدعوة‏.‏ وقرأ ابن مسعود والأعمش ‏{‏وَكَانَ عَبْداً للَّهِ وَجِيهاً‏}‏‏.‏

ياأيها الذين ءامَنُواْ اتقوا الله وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً‏}‏ صدقاً وصواباً أو قاصداً إلى الحق‏.‏ والسداد‏:‏ القصد إلى الحق والقول بالعدل والمراد نهيهم عما خاضوا فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول والبعث على أن يسددوا قولهم في كل باب، لأن حفظ اللسان وسداد القول رأس كل خير‏.‏ ولا تقف على ‏{‏سَدِيداً‏}‏ لأن جواب الأمر قوله ‏{‏يُصْلِحْ لَكُمْ أعمالكم‏}‏ يقبل طاعتكم أو يوفقكم لصالح العمل ‏{‏وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ‏}‏ أي يمحها‏.‏ والمعنى راقبوا الله في حفظ ألسنتكم وتسديد قولكم فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم ما هو غاية الطلبة من تقبل حسناتكم والإثابة عليها ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها‏.‏ وهذه الآية مقررة للتي قبلها بنيت تلك على النهي عما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذه على الأمر باتقاء الله في حفظ اللسان ليترادف عليهم النهي والأمر مع اتباع النهي ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوي الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه‏.‏ ولما علق بالطاعة الفوز العظيم بقوله ‏{‏وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً‏}‏ أتبعه قوله‏.‏

‏{‏إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال‏}‏ وهو يريد بالأمانة الطاعة لله وبحمل الأمانة الخيانة‏.‏ يقال‏:‏ فلان حامل للأمانة ومحتمل لها أي يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمته، إذ الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها ولهذا يقال‏:‏ ركبته الديون ولي عليه حق، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حامل لها يعني أن هذا الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله انقياد مثلها وهو ما يأتي من الجمادات، وأطاعت له الطاعة التي تليق بها حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجاداً وتكويناً وتسوية على هيئات مختلفة وأشكال متنوعة كما قال‏:‏ ‏{‏ثُمَّ استوى إِلَى السماء وَهِىَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 11‏]‏‏.‏ وأخبر أن الشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب يسجدون لله وإن من الحجارة لما يهبط من خشية الله، وأما الإنسان فلم تكن حاله فيما يصح منه من الطاعة ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه وهو حيوان عاقل صالح للتكليف مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع، وهذا معنى قوله ‏{‏فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا‏}‏ أي أبين الخيانة فيها وأن لا يؤدينها ‏{‏وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا‏}‏ وخفن من الخيانة فيها ‏{‏وَحَمَلَهَا الإنسان‏}‏ أي خان فيها وأبى أن لا يؤديها ‏{‏إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً‏}‏ لكونه تاركاً لأداء الأمانة ‏{‏جَهُولاً‏}‏ لإخطائه ما يساعده مع تمكنه منه وهو أداؤها‏.‏

قال الزجاج‏:‏ الكافر والمنافق حملا الأمانة أي خانا ولم يطيعا‏.‏ ومن أطاع من الأنبياء والمؤمنين فلا يقال كان ظلوماً جهولاً‏.‏ وقيل‏:‏ معنى الآية أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه فأبى حمله وأشفق منه وحمله الإنسان على ضعفه ‏{‏إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً‏}‏ حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها وضمنها ثم خاس بضمانه فيها، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب، وما جاء القرآن إلا على أساليبهم من ذلك قولهم «لو قيل للشحم أين تذهب لقال أسوي العوج»‏.‏

واللام في ‏{‏لّيُعَذّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات‏}‏ للتعليل لأن التعذيب هنا نظير التأديب في قولك «ضربته للتأديب» فلا تقف على ‏{‏جَهُولاً‏}‏ ‏{‏وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات‏}‏ وقرأ الأعمش ‏{‏وَيَتُوبُ الله‏}‏ بالرفع ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ويبتديء ‏{‏وَيَتُوبَ الله‏}‏ ومعنى المشهورة ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها لأنه إذا تيب على الوافي كان نوعاً من عذاب الغادر، أو للعاقبة أي حملها الإنسان فآل الآمر إلى تعذيب الأشقياء وقبول توبة السعداء ‏{‏وَكَانَ الله غَفُوراً‏}‏ للتائبين ‏{‏رَّحِيماً‏}‏ بعباده المؤمنين والله الموفق للصواب‏.‏

سورة سبأ

مكية وهي أربع وخمسون آية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 8‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ‏(‏1‏)‏ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ ‏(‏2‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ‏(‏3‏)‏ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ‏(‏4‏)‏ وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ ‏(‏5‏)‏ وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ‏(‏6‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏7‏)‏ أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد‏}‏ إن أجرى على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ بلام التمليك لأنه خالق ناطق الحمد أصلاً فكان بملكه مالك الحمد للتحميد أهلاً ‏{‏الذى لَهُ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الأرض‏}‏ خلقاً وملكاً وقهراً فكان حقيقاً بأن يحمد سراً وجهراً ‏{‏وَلَهُ الحمد فِى الآخرة‏}‏ كما هو له في الدنيا إذ النعم في الدارين من المولى، غير أن الحمد هنا واجب لأن الدنيا دار تكليف وثم لا، لعدم التكليف وإنما يحمد أهل الجنة سروراً بالنعيم وتلذذاً بما نالوا من الأجر العظيم بقولهم ‏{‏الحمد للَّهِ الذى صَدَقَنَا وَعْدَهُ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 74‏]‏ ‏{‏الحمد للَّهِ الذى أَذْهَبَ عَنَّا الحزن‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 34‏]‏ ‏{‏وَهُوَ الحكيم‏}‏ بتدبير ما في السماء والأرض ‏{‏الخبير‏}‏ بضمير من يحمده ليوم الجزاء والعرض ‏{‏يَعْلَمْ‏}‏ مستأنف ‏{‏مَا يَلْجُ‏}‏ ما يدخل ‏{‏فِى الأرض‏}‏ من الأموات والدفائن ‏{‏وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا‏}‏ من النبات وجواهر المعادن ‏{‏وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء‏}‏ من الأمطار وأنواع البركات ‏{‏وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا‏}‏ يصعد إليها من الملائكة والدعوات ‏{‏وَهُوَ الرحيم‏}‏ بإنزال ما يحتاجون إليه ‏{‏الغفور‏}‏ لما يجترئون عليه‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي منكرو البعث ‏{‏لاَ تَأْتِينَا الساعة‏}‏ نفي للبعث وإنكار لمجيء الساعة ‏{‏قُلْ بلى‏}‏ أوجب ما بعد النفي ب «بلى» على معنى أن ليس الأمر إلا إتيانها ‏{‏وَرَبّى لَتَأْتِيَنَّكُمْ‏}‏ ثم أعيد إيجابه مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد وهو التوكيد باليمين بالله عز وجل، ثم أمد التوكيد القسمى بما اتبع المقسم به من الوصف بقوله ‏{‏عالم الغيب‏}‏ لأن عظمة حال المقسم به تؤذن بقوة حال المقسم عليه وبشدة ثباته واستقامته لأنه بمنزلة الاستشهاد على الأمر، وكلما كان المستشهد به أرفع منزلة كانت الشهادة أقوى وآكد والمستشهد عليه أثبت وأرسخ، ولما كان قيام الساعة من مشاهير الغيوب وأدخلها في الخفية كان الوصف بما يرجع إلى علم الغيب أولى وأحق‏.‏ ‏{‏عالم الغيب‏}‏ مدني وشامي أي هو عالم الغيب ‏{‏علامِ الغيب‏}‏ حمزة وعلي على المبالغة ‏{‏لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ‏}‏ وبكسر الزاي‏:‏ عليّ‏.‏ يقال‏:‏ عزب يعزب ويعزب إذا غاب وبعد ‏{‏مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ مقدار أصغر نملة ‏{‏فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ‏}‏ من مثقال ذرة ‏{‏وَلا أَكْبَرُ‏}‏ من مثقال ذرة ‏{‏إِلاَّ فِى كتاب مُّبِينٍ‏}‏ إلا في اللوح المحفوظ، ‏{‏وَلاَ أَصْغَرُ وَلا أَكْبَرُ‏}‏ بالرفع عطف على ‏{‏مِثْقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ ويكون «إلا» بمعنى لكن، أو رفعاً بالابتداء والخبر ‏{‏فِى كتاب‏}‏ واللام في ‏{‏لّيَجْزِىَ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ‏}‏ لما قصروا فيه من مدارج الإيمان ‏{‏وَرِزْقٌ كَرِيمٌ‏}‏ لما صبروا عليه من مناهج الإحسان متعلق ب ‏{‏لَتَأْتِيَنَّكُمْ‏}‏ تعليلاً له‏.‏

‏{‏والذين سَعَوْا فِى ءاياتنا‏}‏ جاهدوا في رد القرآن ‏{‏معاجزين‏}‏ مسابقين ظانين أنهم يفوتوننا‏.‏ ‏{‏مُعَجِزِينَ‏}‏ مكي وأبو عمرو أي مثبطين الناس عن اتباعها وتأملها أو ناسبين الله إلى العجز ‏{‏أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مّن رّجْزٍ أَلِيمٌ‏}‏ برفع ‏{‏أَلِيمٌ‏}‏ مكي وحفص ويعقوب صفة لعذاب أي عذاب أليم من سيء العذاب‏.‏ قال قتادة‏:‏ الرجز سوء العذاب، وغيرهم بالجر صفة لرجز‏.‏

‏{‏وَيَرَى‏}‏ في موضع الرفع بالاستئناف أي ويعلم ‏{‏الذين أُوتُواْ العلم‏}‏ يعني أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن يطأ أعقابهم من أمته أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا كعبد الله بن سلام وأصحابه، والمفعول الأول ل ‏{‏يرى‏}‏ ‏{‏الذى أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ‏}‏ يعني القرآن ‏{‏هُوَ الحق‏}‏ أي الصدق وهو فصل و‏{‏الحق‏}‏ مفعول ثانٍ أو في موضع النصب معطوف على ‏{‏لِيَجْزِىَ‏}‏ وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق علماً لا يزاد عليه في الإيقان ‏{‏وَيَهْدِى‏}‏ الله أو الذي أنزل إليك ‏{‏إلى صِرَاطِ العزيز الحميد‏}‏ وهو دين الله ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ وقال قريش بعضهم لبعض ‏{‏هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ‏}‏ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإنما نكّروه مع أنه كان مشهوراً علماً في قريش وكان إنباؤه بالبعث شائعاً عندهم تجاهلاً به وبأمره وباب التجاهل في البلاغة وإلى سحرها ‏{‏يُنَبّئُكُمْ إِذَا مُزّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ أي يحدثكم بأعجوبة من الأعاجيب أنكم تبعثون وتنشئون خلقاً جديداً بعد أن تكونوا رفاتاً وتراباً ويمزق أجسادكم البلى كل ممزق أي يفرقكم كل تفريق، فالممزق مصدر بمعنى التمزيق، والعامل في ‏{‏إِذَا‏}‏ ما دل عليه ‏{‏إِنَّكُمْ لَفِى خَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ أي تبعثون، والجديد فعيل بمعنى فاعل عند البصريين تقول جد فهو جديد كقل فهو قليل ولا يجوز ‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ بالفتح للام في خبره ‏{‏افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ أهو مفترٍ على الله كذباً فيما ينسب إليه من ذلك والهمزة للاستفهام وهمزة الوصل حذفت استغناء عنها ‏{‏أَم بِهِ جِنَّةٌ‏}‏ جنون يوهمه ذلك ويلقيه على لسانه ‏{‏بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِى العذاب والضلال البعيد‏}‏ ثم قال سبحانه وتعالى‏:‏ ليس محمد من الافتراء والجنون في شيء وهو مبرأ منهما بل هؤلاء القائلون الكافرون بالبعث واقعون في عذاب النار وفيما يؤديهم إليه من الضلال عن الحق وهم غافلون عن ذلك‏.‏ وذلك أجن الجنون، جعل وقوعهم في العذاب رسيلاً لوقوعهم في الضلال كأنهما كائنان في وقت واحد، لأن الضلال لما كان العذاب من لوازمه جعلا كأنهما مقترنان‏.‏ ووصف الضلال بالبعيد من الإسناد المجازي لأن البعيد من الإسناد المجازي لأن البعيد صفة الضال إذا بعد عن الجادة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 13‏]‏

‏{‏أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدْ آَتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ ‏(‏10‏)‏ أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ‏(‏11‏)‏ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ ‏(‏12‏)‏ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ‏(‏13‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مّنَ السماء والأرض إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ‏}‏ وبالإدغام‏:‏ عليّ للتقارب بين الفاء والباء، وضعفه البعض لزيادة صوت الفاء على الباء ‏{‏الأرض أَوْ نُسْقِطْ‏}‏ الثلاثة بالياء‏:‏ كوفي غير عاصم لقوله ‏{‏افترى عَلَى الله كَذِبًا‏}‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ كِسَفاً‏}‏ ‏{‏كِسَفًا‏}‏ حفص ‏{‏مّنَ السماء‏}‏ أي أعموا فلم ينظروا إلى السماء والأرض وأنهما حيثما كانوا وأينما ساروا أمامهم وخلفهم محيطتان بهم لا يقدرون أن ينفذوا من أقطارهما وأن يخرجوا عما هم فيه من ملكوت الله ولم يخافوا أن يخسف الله بهم، أو يسقط عليهم كسفا لتكذيبهم الآيات وكفرهم بالرسول وبما جاء به كما فعل بقارون وأصحاب الأيكة ‏{‏إِنَّ فِى ذَلِكَ‏}‏ النظر إلى السماء والأرض والفكر فيهما وما تدلان عليه من قدرة الله تعالى ‏{‏لآيَةً‏}‏ لدلالة ‏{‏لّكُلّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ‏}‏ راجع إلى ربه مطيع له إذ المنيب لا يخلو من النظر في آيات الله على أنه قادر على كل شيء من البعث ومن عقاب من يكفر به‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ ءاتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً ياجبال‏}‏ بدل من ‏{‏فَضْلاً‏}‏ أو من ‏{‏ءاتَيْنَا‏}‏ بتقدير قولنا يا جبال أو قلنا يا جبال ‏{‏أَوّبِى مَعَهُ‏}‏ من التأويب رجعي معه التسبيح ومعنى تسبيح الجبال أن الله يخلق فيها تسبيحاً فيسمع منها كما يسمع من المسبح معجزة لداود عليه السلام ‏{‏والطير‏}‏ عطف على محل الجبال و‏{‏الطير‏}‏ عطف على لفظ الجبال وفي هذا النظم من الفخامة ما لا يخفى حيث جعلت الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا وإذا دعاهم أجابوا إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقاد لمشيئة الله تعالى، ولو قال آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير لم يكن فيه هذه الفخامة‏.‏ ‏{‏وَأَلَنَّا لَهُ الحديد‏}‏ وجعلناه له ليّناً كالطين المعجون يصرفه بيده كيف يشاء من غير نار ولا ضرب بمطرقة‏.‏ وقيل‏:‏ لأن الحديد في يده لما أوتي من شدة القوة ‏{‏أَنِ اعمل‏}‏ «أن» بمعنى أي أو أمرناه أن أعمل ‏{‏سابغات‏}‏ دروعاً واسعة تامة من السبوغ وهو أول من اتخذها، وكان يبيع الدرع بأربعة آلاف فينفق منها على نفسه وعياله ويتصدق على الفقراء‏.‏ وقيل‏:‏ كان يخرج متنكراً فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم ما تقولون في داود فيثنون عليه فقيض الله له ملكاً في صورة آدمي فسأله على عادته فقال‏:‏ نعم الرجل لولا خصلة فيه وهو أنه يطعم عياله من بيت المال فسأله عند ذلك ربه أن يسبب له ما يستغني به عن بيت المال فعلمه صنعة الدروع ‏{‏وَقَدّرْ فِى السرد‏}‏ لا تجعل المسامير دقاقاً فتقلق ولا غلاظاً فتفصم الحلق، والسرد‏:‏ نسج الدروع ‏{‏واعملوا‏}‏ الضمير لداود وأهله ‏{‏صالحا‏}‏ خالصاً يصلح للقبول ‏{‏إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ فأجازيكم عليه‏.‏

‏{‏ولسليمان الريح‏}‏ أي وسخرنا لسليمان الريح وهي الصبا‏.‏ ورفع ‏{‏الريح‏}‏ أبو بكر وحماد والفضل أي وسليمان الريح مسخرة ‏{‏غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ‏}‏ جريها بالغداة مسيرة شهر وجريها بالعشي كذلك، وكان يغدو من دمشق فيقيل باصطخر فارس وبينهما مسيرة شهر ويروح من اصطخر فيبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر للراكب المسرع‏.‏ وقيل‏:‏ كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند ‏{‏وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر‏}‏ أي معدن النحاس فالقطر النحاس وهو الصفر ولكنه أساله وكان يسيل في الشهر ثلاثة أيام كما يسيل الماء وكان قبل سليمان لا يذوب، وسماه عين القطر باسم ما آل إليه ‏{‏وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ‏}‏ «من» في موضع نصب أي وسخرنا من الجن من يعمل ‏{‏بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبّهِ‏}‏ بأمر ربه ‏{‏وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ‏}‏ ومن يعدل منهم ‏{‏عَنْ أَمْرِنَا‏}‏ الذي أمرنا به من طاعة سليمان ‏{‏نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير‏}‏ عذاب الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ كان معه ملك بيده سوط من نار فمن زاع عن أمر سليمان عليه السلام ضرب ضربة أحرقته ‏{‏يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن محاريب‏}‏ أي مساجد أو مساكن ‏{‏وتماثيل‏}‏ أي صور السباع والطيور‏.‏ وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما وإذا قعد أظله النسران بأجنحتهما وكان التصوير مباحاً حينئذ ‏{‏وَجِفَانٍ‏}‏ جمع جفنة ‏{‏كالجواب‏}‏ جمع جابية وهي الحياض الكبار‏.‏ قيل‏:‏ كان يقعد على الجفنة ألف رجل‏.‏ ‏{‏كالجوابي‏}‏ في الوصل والوقف‏:‏ مكي ويعقوب وسهل، وافق أبو عمرو في الوصل، الباقون بغير ياء اكتفاء بالكسرة ‏{‏وَقُدُورٍ راسيات‏}‏ ثابتات على الأثافي لا تنزل عنها لعظمها‏.‏ وقيل‏:‏ إنها باقية باليمن وقلنا لهم ‏{‏اعملوا ءالَ دَاوُودَ شاكرا‏}‏ أي ارحموا أهل البلاد واسألوا ربكم العافية عن الفضل و‏{‏شاكرا‏}‏ مفعول له أو حال أي شاكرين أو اشكروا شكراً لأن ‏{‏اعملوا‏}‏ فيه معنى اشكروا من حيث إن العمل للمنعم شكر له أو مفعول به يعني إنا سخرنا لكم الجن يعملون لكم ما شئتم فاعملوا أنتم شكراً، وسئل الجنيد عن الشكر فقال‏:‏ بذل المجهود بين يدي المعبود ‏{‏وَقَلِيلٌ مّنْ عِبَادِىَ‏}‏ بسكون الياء‏:‏ حمزة وغيره بفتحها ‏{‏الشكور‏}‏ المتوفر على أداء الشكر الباذل وسعه فيه قد شغل به قلبه ولسانه وجوارحه اعتقاداً واعترافاً وكدحاً‏.‏ وعن ابن عباس رضي الله عنه‏:‏ من يشكر على أحواله كلها‏.‏ وقيل‏:‏ من يشكر على الشكر‏.‏ وقيل‏:‏ من يرى عجزه عن الشكر‏.‏ وحكي عن داود عليه السلام أنه جزأ ساعات الليل والنهار على أهله فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏14- 19‏]‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ‏(‏14‏)‏ لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آَيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ ‏(‏15‏)‏ فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ ‏(‏16‏)‏ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ‏(‏17‏)‏ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ ‏(‏18‏)‏ فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ‏(‏19‏)‏‏}‏

‏{‏فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الموت‏}‏ أي على سليمان ‏{‏مَا دَلَّهُمْ‏}‏ أي الجن وآل داود ‏{‏على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ‏}‏ أي الأرضة وهي دويبة يقال لها صرفة والأرض فعلها فأضيفت إليه‏.‏ يقال‏:‏ أرضت الخشبة أرضاً إذا أكلتها الأرضة ‏{‏تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ‏}‏ والعصا تسمى منسأة لأنه ينسأ بها أي يطرد، و‏{‏مِنسَأَتَهُ‏}‏ بغير همز‏:‏ مدني وأبو عمرو ‏{‏فَلَمَّا خَرَّ‏}‏ سقط سليمان ‏{‏تَبَيَّنَتِ الجن‏}‏ علمت الجن كلهم علماً بيناً بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم ‏{‏أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب مَا لَبِثُواْ‏}‏ بعد موت سليمان ‏{‏فِى العذاب المهين‏}‏ وروي أن داود عليه السلام أسس بناء بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السلام فمات قبل أن يتمه فوصى به إلى سليمان فأمر الشياطين بإتمامه، فلما بقي من عمره سنة سأل ربه أن يعمي عليهم موته حتى يفرغوا منه ولتبطل دعواهم علم الغيب وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة، ملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة فبقي في ملكه أربعين سنة وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه‏.‏ وروي أن أفريدون جاء ليصعد كرسيه فلما دنا ضرب الأسدان ساقه فكسراها فلم يجسر أحد بعده أن يدنو منه‏.‏

‏{‏لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ‏}‏ بالصرف بتأويل الحي، وبعدمه‏:‏ أبو عمرو بتأويل القبيلة ‏{‏فِى مَسْكَنِهِمْ‏}‏ حمزة وحفص ‏{‏مَسْكَنِهِمْ‏}‏ علي وخلف وهو موضع سكناهم وهو بلدهم وأرضهم التي كانوا مقيمين فيها باليمن أو مسكن كل واحد منهم، غيرهم ‏{‏مساكنهم‏}‏ ‏{‏ءايَةً‏}‏ اسم كان ‏{‏جَنَّتَانِ‏}‏ بدل من ‏{‏ءايَةً‏}‏ أو خبر مبتدأ محذوف تقديره الآية جنتان، ومعنى كونهما آية أن أهلها لما أعرضوا عن شكر الله سلبهم الله النعمة ليعتبروا ويتعظوا فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط النعم، أو جعلهما آية أي علامة دالة على قدرة الله وإحسانه ووجوب شكره ‏{‏عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ‏}‏ أراد جماعتين من البساتين جماعة عن يمين بلدهم وأخرى عن شمالها، وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بساتين البلاد العامرة، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله ‏{‏كُلُواْ مِن رّزْقِ رَبّكُمْ واشكروا لَهُ‏}‏ حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم، أو لما قال لهم لسان الحال، أو هم أحقاء بأن يقال لهم ذلك‏.‏ ولما أمرهم بذلك أتبعه قوله ‏{‏بَلْدَةٌ طَيّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ‏}‏ أي هذه البلدة التي فيها رزقكم بلدة طيبة، وربكم الذي رزقكم وطلب شكركم رب غفور لمن شكره‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كانت سبأ على ثلاث فراسخ من صنعاء وكانت أخصب البلاد، تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل فتعمل بيدها وتسير بين تلك الشجر فيمتليء المكتل مما يتساقط فيه من الثمر وطيبها ليس فيها بعوض ولا ذباب ولا برغوث ولا عقرب ولا حية، ومن يمر بها من الغرباء يموت قمله لطيب هوائها‏.‏

‏{‏فَأَعْرِضُواْ‏}‏ عن دعوة أنبيائهم فكذبوهم وقالوا ما نعرف لله علينا نعمة ‏{‏فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم‏}‏ أي المطر الشديد أو العرم اسم الوادي أو هو الجرذ الذي نقب عليهم السّكر لما طغوا سلط الله عليهم الجرذ فنقبه من أسفل فغرقهم ‏{‏وبدلناهم بِجَنَّتَيْهِمْ‏}‏ المذكورتين ‏{‏جَنَّتَيْنِ‏}‏ وتسمية البدل جنتين للمشاكلة وازدواج الكلام كقوله ‏{‏وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 40‏]‏ ‏{‏ذَوَاتَىْ أُكُلٍ خَمْطٍ‏}‏ الأكل الثمر يثقل ويخفف وهو قراءة نافع ومكي، والخمط شجر الأراك، وقيل‏:‏ كل شجر ذي شوك ‏{‏وَأَثْلٍ وَشَئ مّن سِدْرٍ قَلِيلٍ‏}‏ الأثل شجر يشبه الطرفاء أعظم منه وأجود عوداً، ووجه من نون الأكل وهو غير أبي عمرو أن أصله ذواتي أكل خمط فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، أو وصف الأكل بالخمط كأنه قيل‏:‏ ذواتي أكل بشع، ووجه أبي عمر أن أكل الخمط في معنى البرير وهو ثمر الأراك إذا كان غضاً فكأنه قيل ذواتي برير، والأثل والسدر معطوفان على ‏{‏أَكَلَ‏}‏ لا على ‏{‏خَمْطٍ‏}‏ لأن الأثل لا أكل له‏.‏ وعن الحسن‏:‏ قلل السدر لأنه أكرم ما بدلوا لأنه يكون في الجنان ‏{‏ذَلِكَ جزيناهم بِمَا كَفَرُواْ‏}‏ أي جزيناهم ذلك بكفرهم فهو مفعول ثان مقدم ‏{‏وَهَلْ نُجَازِىِ إِلاَّ الكفور‏}‏ كوفي غير أبي بكر‏.‏ ‏{‏وَهَلْ نُجازَى إِلاَّ الكفور‏}‏ غيرهم يعني وهل نجازي مثل هذا الجزاء إلا من كفر النعمة ولم يشكرها أو كفر بالله، أو هل يعاقب لأن الجزاء وإن كان عاماً يستعمل في معنى المعاقبة وفي معنى الإثابة لكن المراد الخاص وهو العقاب‏.‏ وعن الضحاك‏:‏ كانوا في الفترة التي بين عيسى ومحمد عليهما السلام‏.‏

‏{‏وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم‏}‏ بين سبإٍ ‏{‏وَبَيْنَ القرى التى بَارَكْنَا فِيهَا‏}‏ بالتوسعة على أهلها في النعم والمياه وهي قرى الشام ‏{‏قُرًى ظاهرة‏}‏ متواصلة يرى بعضها من بعض لتقاربها فهي ظاهرة لأعين الناظرين، أو ظاهرة للسابلة لم تبعد عن مسالكهم حتى تخفى عليهم وهي أربعة آلاف وسبعمائة قرية متصلة من سبإٍ إلى الشام ‏{‏وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير‏}‏ أي جعلنا هذه القرى على مقدار معلوم يقيل المسافر في قرية ويروح في أخرى إلى أن يبلغ الشام ‏{‏سِيرُواْ فِيهَا‏}‏ وقلنا لهم سيروا ولا قول ثمة، ولكنهم لما مكنوا من السير وسويت لهم أسبابه فكأنهم أمروا بذلك ‏{‏ليالي وأياماً آمنين‏}‏ أي سيروا فيها إن شئتم بالليل وإن شئتم بالنهار فإن الأمن فيها لا يختلف باختلاف الأوقات أي سيروا فيها آمنين لا تخافون عدواً ولا جوعاً ولا عطشاً وإن تطاولت مدة سفركم وامتدت أياماً وليالي ‏{‏فَقَالُواْ رَبَّنَا باعد بَيْنَ أَسْفَارِنَا‏}‏ قالوا يا ليتها كانت بعيدة فنسير على نجائبنا، ونربح في التجارات ونفاخر في الدواب والأسباب، بطروا النعمة وملوا العافية فطلبوا الكد والتعب، ‏{‏بَعْدَ‏}‏ مكي وأبو عمرو ‏{‏وَظَلَمُواْ‏}‏ بما قالوا ‏{‏أَنفُسَهُمْ فجعلناهم أَحَادِيثَ‏}‏ يتحدث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم ‏{‏ومزقناهم كُلَّ مُمَزَّقٍ‏}‏ وفرقناهم تفريقاً اتخذه الناس مثلاً مضروباً يقولون «ذهبوا أيدي سبأ» و«تفرقوا أيادي سبأ» فلحق غسان بالشام وأنمار بيثرب وجذام بتهامة والأزد بعمان ‏{‏إِنَّ فِى ذلك لآيات لّكُلّ صَبَّارٍ‏}‏ عن المعاصي ‏{‏شَكُورٍ‏}‏ للنعم أو لكل مؤمن لأن الإيمان نصفان نصفه شكر ونصفه صبر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20- 28‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ ‏(‏21‏)‏ قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ ‏(‏22‏)‏ وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ‏(‏23‏)‏ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ‏(‏24‏)‏ قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ ‏(‏26‏)‏ قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏27‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ‏}‏ بالتشديد‏:‏ كوفي أي حقق عليهم ظنه أو وجده صادقاً، وبالتخفيف‏:‏ غيرهم أي صدق في ظنه ‏{‏فاتبعوه‏}‏ الضمير في ‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ و‏{‏اتبعوه‏}‏ لأهل سبإ أو لبني آدم‏.‏ وقلل المؤمنين بقوله ‏{‏إِلاَّ فَرِيقاً مّنَ المؤمنين‏}‏ لقلتهم بالإضافة إلى الكفار ‏{‏وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ‏}‏ لإبليس على الذين صار ظنه فيهم صدقاً ‏{‏مِنْ سلطان‏}‏ من تسليط واستيلاء بالوسوسة ‏{‏إِلاَّ لِنَعْلَمَ‏}‏ موجوداً ما علمناه معدوماً والتغير على المعلوم لا على العلم ‏{‏مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِى شَكّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلّ شَئ حَفُيظٌ‏}‏ محافظ عليه وفعيل ومفاعل متآخيان ‏{‏قُلْ‏}‏ لمشركي قومك ‏{‏ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مّن دُونِ الله‏}‏ أي زعمتموهم آلهة من دون الله، فالمفعول الأول الضمير الراجع إلى الموصول وحذف كما حذف في قوله ‏{‏أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 41‏]‏ استخفافاً لطول الموصول بصلته‏.‏ والمفعول الثاني آلهة وحذف لأنه موصوف صفته ‏{‏مِن دُونِ الله‏}‏ والموصوف يجوز حذفه وإقامة الصفة مقامه إذا كان مفهوماً، فإذاً مفعولا زعم محذوفان بسببين مختلفين، والمعنى ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة وسميتموهم باسمه والتجئوا إليهم فيما يعروكم كما تلتجئون إليه وانتظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون استجابته، ثم أجاب عنهم بقوله ‏{‏لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ‏}‏ من خير أو شر أو نفع أو ضر ‏{‏فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ‏}‏ وما لهم في هذين الجنسين من شركة في الخلق ولا في الملك ‏{‏وَمَا لَهُ‏}‏ تعالى ‏{‏مِنْهُمْ‏}‏ من آلهتهم ‏{‏مّن ظَهِيرٍ‏}‏ من عوين يعينه على تدبير خلقه يريد أنهم على هذه الصفة من العجز فكيف يصح أن يدعوا كما يدعي ويرجوا كما يرجى‏.‏

‏{‏وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ‏}‏ أي أذن له الله يعني إلا من وقع الإذن للشفيع لأجله وهي اللام الثانية في قولك «أذن لزيد لعمرو» أي لأجله، وهذا تكذيب لقولهم ‏{‏هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله‏}‏ ‏{‏أَذِنَ لَهُ‏}‏ كوفي غير عاصم إلا الأعشى ‏{‏حتى إِذَا فُزّعَ عَن قُلُوبِهِمْ‏}‏ أي كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يتكلم بها رب العزة في إطلاق الإذن و‏{‏فَزّعَ‏}‏ شامي أي الله تعالى، والتفزيع إزالة الفزع و‏{‏حتى‏}‏ غاية لما فهم من أن ثم انتظاراً للإذن وتوقفاً وفزعاً من الراجين للشفاعة والشفعاء هل يؤذن لهم أو لا يؤذن لهم كأنه قيل‏:‏ يتربصون ويتوقعون ملياً فزعين حتى إذا فزع عن قلوبهم ‏{‏قَالُواْ‏}‏ سأل بعضهم بعضاً ‏{‏مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ‏}‏ قال ‏{‏الحق‏}‏ أي القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى‏.‏

‏{‏وَهُوَ العلى الكبير‏}‏ ذو العلو والكبرياء ليس لملك ولا نبي أن يتكلم ذلك اليوم إلا بإذنه وان يشفع إلا لمن ارتضى

‏{‏قُلْ مَن يَرْزُقُكُمْ مّنَ السماوات والأرض قُلِ الله‏}‏ أمره بأن يقررهم بقوله ‏{‏مَن يَرْزُقُكُم‏}‏ ثم أمره بأن يتولى الإجابة والإقرار عنهم بقوله «يرزقكم الله» وذلك للإشعار بأنهم مقرون به بقلوبهم إلا أنهم ربما أبوا أن يتكلموا به لأنهم إن تفوهوا بأن الله رازقهم لزمهم أن يقال لهم فما لكم لا تعبدون من يرزقكم وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق، وأمره أن يقول لهم بعد الإلزام والإلجام الذي إن لم يزد على إقرارهم بألسنتهم لم يتقاصر عنه ‏{‏وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِى ضلال مُّبِينٍ‏}‏ ومعناه وإن أحد الفريقين من الموحدين ومن المشركين لعلى أحد الأمرين من الهدى والضلال، وهذا من الكلام المنصف الذي كل من سمعه من موالٍ أو منافٍ قال لمن خوطب به‏:‏ قد أنصفك صاحبك‏.‏ وفي درجة بعد تقدم ما قدم من التقرير دلالة غير خفية على من هو من الفريقين على الهدى ومن هو في الضلال المبين ولكن التعرض أوصل بالمجادل إلى الغرض، ونحوه قولك للكاذب «إن أحدنا لكاذب»‏.‏ وخولف بين حرفي الجر الداخلين على الهدى والضلال لأن صاحب الهدى كأنه مستعل على فرس جواد يركضه حيث شاء، والضال كأنه ينغمس في ظلام لا يرى أين يتوجه‏.‏

‏{‏قُل لاَّ تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ‏}‏ هذا أدخل في الإنصاف من الأول حيث أسند الإجرام إلى المخاطبين وهو مزجور عنه محظور، والعمل إلى المخاطبين وهو مأمور به مشكور‏.‏

‏{‏قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا‏}‏ يوم القيامة ‏{‏ثُمَّ يَفْتَحُ‏}‏ يحكم ‏{‏بَيْنَنَا بالحق‏}‏ بلا جور ولا ميل ‏{‏وَهُوَ الفتاح‏}‏ الحاكم ‏{‏العليم‏}‏ بالحكم ‏{‏قُلْ أَرُونِىَ الذين أَلْحَقْتُمْ‏}‏ أي ألحقتموهم ‏{‏بِهِ‏}‏ بالله ‏{‏شُرَكَاء‏}‏ في العبادة معه‏.‏ ومعنى قوله ‏{‏أَرُونِىَ‏}‏ وكان يراهم أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء بالله وأن يطلعهم على حالة الإشراك به ‏{‏كَلاَّ‏}‏ ردع وتنبيه أي ارتدعوا عن هذا القول وتنبهوا عن ضلالكم ‏{‏بَلْ هُوَ الله العزيز‏}‏ الغالب فلا يشاركه أحد وهو ضمير الشأن ‏{‏الحكيم‏}‏ في تدبيره ‏{‏وَمَا أرسلناك إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ‏}‏ إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم لأنها إذا شملتهم فقد كفتّهم أن يخرج منها أحد منهم‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ معنى الكافة في اللغة الإحاطة، والمعنى أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ، فجعله حالاً من الكاف والتاء على هذا للمبالغة كتاء الراوية والعلاّمة ‏{‏بَشِيراً‏}‏ بالفضل لمن أقر ‏{‏وَنَذِيرًا‏}‏ بالعدل لمن أصر ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ فيحملهم جهلهم على مخالفتك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 41‏]‏

‏{‏وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآَنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ‏(‏31‏)‏ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ‏(‏33‏)‏ وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ ‏(‏34‏)‏ وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ‏(‏35‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ‏(‏36‏)‏ وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ ‏(‏37‏)‏ وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ ‏(‏38‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ‏(‏39‏)‏ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ ‏(‏40‏)‏ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ ‏(‏41‏)‏‏}‏

‏{‏وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد‏}‏ أي القيامة المشار إليها في قوله ‏{‏قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا‏}‏ ‏{‏إِن كُنتُمْ صادقين قُل لَّكُم مّيعَادُ يَوْمٍ‏}‏ الميعاد ظرف الوعد من مكان أو زمان وهو هنا الزمان ويدل عليه قراءة من قرأ ‏{‏مّيعَادُ يَوْمٍ‏}‏ فأبدل منه اليوم، وأما الإضافة فإضافة تبيين كما تقول «بعير سانية» ‏{‏لاَّ تَسْتَئَخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ أي لا يمكنكم التأخر عنه بالاستمهال ولا التقدم إليه بالاستعجال، ووجه انطباق هذا الجواب على سؤالهم أنهم سألوا عن ذلك وهم منكرون له تعنتاً لا استرشاداً فجاء الجواب على طريق التهديد مطابقاً للسؤال على الإنكار والتعنت وأنهم مرصدون ليوم يفاجئهم فلا يستطيعون تأخراً عنه ولا تقدماً عليه ‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي أبو جهل وذووه ‏{‏لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرءان وَلاَ بالذى بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ أي ما نزل قبل القرآن من كتب الله أو القيامة والجنة والنار حتى إنهم جحدوا أن يكون القرآن من الله، وأن يكون لما دل عليه من الإعادة للجزاء حقيقة ‏{‏وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ‏}‏ محبوسون ‏{‏عِندَ رَبّهِمْ يَرْجِعُ‏}‏ يرد ‏{‏بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول‏}‏ في الجدال أخبر عن عاقبة أمرهم ومآلهم في الآخرة فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أو للمخاطب‏:‏ ولو ترى في الآخرة موقفهم وهم يتجاذبون أطراف المحاورة ويتراجعونها بينهم لرأيت العجب فحذف الجواب ‏{‏يَقُولُ الذين استضعفوا‏}‏ أي الأتباع ‏{‏لِلَّذِينَ استكبروا‏}‏ أي للرؤوس والمقدمين ‏{‏لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ‏}‏ لولا دعاؤكم إيانا إلى الكفر لكنا مؤمنين بالله ورسوله ‏{‏قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صددناكم عَنِ الهدى‏}‏ أولى الاسم أي نحن حرف الانكار لأن المراد إنكار أن يكون هم الصادين لهم عن الإيمان وإثبات أنهم هم الذين صدوا بأنفسهم عنه وأنهم أتوا من قبل اختيارهم ‏{‏بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ‏}‏ إنما وقعت «إذ» مضافاً إليها وإن كانت «إذ» و«إذا» من الظروف اللازمة للظرفية لأنه قد اتسع في الزمان ما لم يتسع في غيره فأضيف إليها الزمان ‏{‏بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ‏}‏ كافرين لاختياركم وإيثاركم الضلال على الهدى لا بقولنا وتسويلنا‏.‏ ‏{‏وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا‏}‏ لم يأت بالعاطف في ‏{‏قَالَ الذين استكبروا‏}‏ وأتى به في ‏{‏وَقَالَ الذين استضعفوا‏}‏ لأن الذين استضعفوا مر أولاً كلامهم فجيء بالجواب محذوف العاطف على طريق الاستئناف، ثم جيء بكلام آخر للمستضعفين فعطف على كلامهم الأول ‏{‏بَلْ مَكْرُ اليل والنهار‏}‏ بل مكركم بنا بالليل والنهار فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول به وإضافة المكر إليه، أو جعل ليلهم ونهارهم ماكرين على الإسناد المجازي أي الليل والنهار مكراً بطول السلامة فيهما حتى ظننا أنكم على الحق ‏{‏إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً‏}‏ أشباهاً‏.‏

والمعنى أن المستكبرين لما أنكروا بقولهم ‏{‏أَنَحْنُ صددناكم‏}‏ أن يكونوا هم السبب في كفر المستضعفين وأثبتوا بقولهم ‏{‏بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ‏}‏ أن ذلك بكسبهم واختيارهم، كر عليهم المستضعفون بقولهم ‏{‏بَلْ مَكْرُ اليل والنهار‏}‏ فأبطلوا إضرابهم بأضرابهم كأنهم قالوا‏:‏ ما كان الإجرام من جهتنا بل من جهة مكركم لنا دائباً ليلاً ونهاراً وحملكم إيانا على الشرك واتخاذ الأنداد ‏{‏وَأَسَرُّواْ الندامة‏}‏ أضمروا أو أظهروا وهو من الأضداد وهم الظالمون في قوله ‏{‏إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ‏}‏ يندم المستكبرون على ضلالهم وإضلالهم والمستضعفون على ضلالهم واتباعهم المضلين ‏{‏لَمَّا رَأَوُاْ العذاب‏}‏ الجحيم ‏{‏وَجَعَلْنَا الأغلال فِى أَعْنَاقِ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي في أعناقهم فجاء بالصريح للدلالة على ما استحقوا به الأغلال ‏{‏هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ‏}‏ في الدنيا‏.‏

‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا فِى قَرْيَةٍ مّن نَّذِيرٍ‏}‏ نبي ‏{‏إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَا‏}‏ متنعموها ورؤساؤها ‏{‏إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافرون‏}‏ هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما مني به من قومه من التكذيب والكفر بما جاء به وأنه لم يرسل قط إلى أهل قرية من نذير إلا قالوا له مثل ما قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة وافتخروا بكثرة الأموال والأولاد كما قال ‏{‏وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أموالا وأولادا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ‏}‏ أرادوا أنهم أكرم على الله من أن يعذبهم نظراً إلى أحوالهم في الدنيا، وظنوا أنهم لو لم يكرموا على الله لما رزقهم الله، ولولا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم، فأبطل الله ظنهم بأن الرزق فضل من الله يقسمه كيف يشاء، فربما وسع على العاصي وضيق على المطيع وربما عكس، وربما وسع عليهما أو ضيق عليهما فلا ينقاس عليهما أمر الثواب وذلك قوله‏:‏

‏{‏قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ‏}‏ قدر الرزق تضييقه قال الله تعالى ‏{‏وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 7‏]‏ ‏{‏ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ‏}‏ ذلك ‏{‏وَمَا أموالكم وَلاَ أولادكم بالتى تُقَرّبُكُمْ عِندَنَا زلفى‏}‏ أي وما جماعة أموالكم ولا جماعة أولادكم بالتي تقربكم، وذلك أن الجمع المكسر عقلاؤه وغير عقلائه سواء في حكم التأنيث، والزلفى والزلفة كالقربى والقربة ومحلها النصب على المصدر أي تقربكم قربة كقوله ‏{‏أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً‏}‏ ‏[‏نوح‏:‏ 17‏]‏ ‏{‏إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً‏}‏ الاستثناء من «كم» في ‏{‏تُقَرّبُكُمْ‏}‏ يعني أن الأموال لا تقرب أحداً إلا المؤمن الصالح الذي ينفقها في سبيل الله، والأولاد لا تقرب أحداً إلا من علمهم الخير وفقههم في الدين ورشحهم للصلاح والطاعة‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ «إلا» بمعنى «لكن» ومن شرط جوابه ‏{‏فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاء الضعف‏}‏ وهو من إضافة المصدر إلى المفعول أصله فأولئك لهم أن يجازوا الضعف ثم جزاء الضعف ثم جزاء الضعف، ومعنى جزاء الضعف أن تضاعف لهم حسناتهم الواحدة عشراً وقرأ يعقوب ‏{‏جَزَاءً الضعف‏}‏، على «فأولئك لهم الضعف جزاء» ‏{‏بِمَا عَمِلُواْ‏}‏ بأعمالهم ‏{‏وَهُمْ فِى الغرفات‏}‏ أي غرف منازل الجنة ‏{‏الغرفة‏}‏ حمزة ‏{‏ءامِنُونَ‏}‏ من كل هائل وشاغل‏.‏

‏{‏والذين يَسْعَوْنَ فِى ءاياتنا‏}‏ في إبطالها ‏{‏معاجزين أُوْلَئِكَ فِى العذاب مُحْضَرُونَ قُلْ إِنَّ رَبّى يَبْسُطُ الرزق‏}‏ يوسع ‏{‏لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ‏}‏ «ما» شرطية في موضع النصب ‏{‏مِن شَئ‏}‏ بيانه ‏{‏فَهُوَ يُخْلِفُهُ‏}‏ يعوضه لا معوض سواه إما عاجلاً بالمال أو آجلاً بالثواب جواب الشرط ‏{‏وَهُوَ خَيْرُ الرازقين‏}‏ المطعمين لأن كل ما رزق غيره من سلطان أو سيد أو غيرهما فهو من رزق الله أجراه على أيدي هؤلاء، وهو خالق الرزق وخالق الأسباب التي بها ينتفع المرزوق بالرزق‏.‏ وعن بعضهم‏:‏ الحمد لله الذي أوجدني وجعلني ممن يشتهي فكم من مشتهٍ لا يجد وواجد لا يشتهي‏.‏

‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ للملائكة أَهَؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ‏}‏ وبالياء فيهما‏:‏ حفص ويعقوب‏.‏ هذا خطاب للملائكة وتقريع للكفار وارد على المثل السائر‏:‏

إياك أعني واسمعي يا جاره

ونحوه قوله ‏{‏أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 116‏]‏ الآية ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي الملائكة ‏{‏سبحانك‏}‏ تنزيهاً لك أن يعبد معك غيرك ‏{‏أَنتَ وَلِيُّنَا‏}‏ الموالاة خلاف المعاداة وهي مفاعلة من الولي وهو القرب والولي يقع على الموالي والموالى جميعاً، والمعنى أنت الذي تواليه ‏{‏مِن دُونِهِمُ‏}‏ إذ لا موالاة بيننا وبينهم فبينوا بإثبات موالاة الله ومعاداة الكفار براءتهم من الرضا بعبادتهم لهم لأن من كان على هذه الصفة كانت حاله منافية لذلك ‏{‏بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن‏}‏ أي الشياطين حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، أو كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت فيعبدون بعبادتها، أو صورت لهم الشياطين صور قوم من الجن وقالوا هذه صور الملائكة فاعبدوها ‏{‏أَكْثَرُهُمْ‏}‏ أكثر الإنس أو الكفار ‏{‏بِهِمُ‏}‏ بالجن ‏{‏مُؤْمِنُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏42- 46‏]‏

‏{‏فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏42‏)‏ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ‏(‏43‏)‏ وَمَا آَتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ ‏(‏44‏)‏ وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آَتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏45‏)‏ قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً‏}‏ لأن الأمر في ذلك اليوم لله وحده لا يملك فيه أحد منفعة ولا مضرة لأحد، لأن الدار دار ثواب وعقاب والمثيب والمعاقب هو الله‏.‏ فكانت حالها خلاف حال الدنيا التي هي دار تكليف والناس فيها مخلى بينهم يتضارون ويتنافعون، والمراد أنه لا ضار ولا نافع يومئذ إلا هو‏.‏ ثم ذكر عاقبة الظالمين بقوله ‏{‏وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ‏}‏ بوضع العبادة في غير موضعها معطوف على ‏{‏لاَ يَمْلِكُ‏}‏ ‏{‏ذُوقُواْ عَذَابَ النار التى كُنتُم بِهَا تُكَذّبُونَ‏}‏ في الدنيا ‏{‏وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ ءاياتنا‏}‏ أي إذا قريء عليهم القرآن ‏{‏بينات‏}‏ واضحات ‏{‏قَالُواْ‏}‏ أي المشركون ‏{‏مَا هذا‏}‏ أي محمد ‏{‏إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُكُمْ وَقَالُواْ مَا هَذَآ‏}‏ أي القرآن ‏{‏إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرى‏}‏‏.‏

‏{‏وَقَالَ الذين كَفَرُواْ‏}‏ أي وقالوا، والعدول عنه دليل على إنكار عظيم وغضب شديد ‏{‏لِلْحَقّ‏}‏ للقرآن أو لأمر النبوة كله ‏{‏لَمَّا جَاءهُمْ‏}‏ وعجزوا عن الإتيان بمثله ‏{‏إِنَّ هَذَا‏}‏ أي الحق ‏{‏إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ‏}‏ بتوه على أنه سحر ثم بتوه على أنه بين ظاهر كل عاقل تأمله سماه سحراً ‏{‏وَمَا ءاتيناهم مّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا‏}‏ أي ما أعطينا مشركي مكة كتباً يدرسونها فيها برهان على صحة الشرك ‏{‏وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مّن نَّذِيرٍ‏}‏ ولا أرسلنا إليهم نذيراً يندرهم بالعقاب إن لم يشركوا‏.‏ ثم توعدهم على تكذيبهم بقوله ‏{‏وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ‏}‏ أي وكذب الذين تقدموهم من الأمم الماضية والقرون الخالية الرسل كما كذبوا ‏{‏وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَا ءاتيناهم‏}‏ أي وما بلغ أهل مكة عشر ما أوتي الأولون من طول الأعمار وقوة الأجرام وكثرة الأموال والأولاد ‏{‏فَكَذَّبُواْ رُسُلِى فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ للمكذبين الأولين فليحذروا من مثله‏.‏ وبالياء في الوصل والوقف‏:‏ يعقوب أي فحين كذبوا رسلهم جاءهم إنكاري بالتدمير والاستئصال ولم يغن عنهم استظهارهم بما هم مستظهرون، فما بال هؤلاء‏؟‏ وإنما قال ‏{‏فَكَذَّبُواْ‏}‏ وهو مستغنى عنه بقوله ‏{‏وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ‏}‏ لأنه لما كان معنى قوله ‏{‏وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ‏}‏ وفعل الذين من قبلهم التكذيب وأقدموا عليه جعل تكذيب الرسل مسبباً عنه وهو كقول القائل‏:‏ «أقدم فلان على الكفر فكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم»‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بواحدة‏}‏ بخصلة واحدة وقد فسرها بقوله ‏{‏أَن تَقُومُواْ‏}‏ على أنه عطف بيان لها وقيل هو بدل، وعلى هذين الوجهين هو في محل الجر‏.‏ وقيل‏:‏ هو في محل الرفع على تقدير وهي أن تقوموا، والنصب على تقدير أعني، وأراد بقيامهم القيام عن مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وتفرقهم عن مجتمعهم عنده، أو قيام القصد إلى الشيء دون النهوض والانتصاب، والمعنى إنما أعظكم بواحدة إن فعلتموها أصبتم الحق وتخلصتم وهي أن تقوموا ‏{‏لِلَّهِ‏}‏ أي لوجه الله خالصاً لا لحمية ولا عصبية بل لطلب الحق ‏{‏مثنى‏}‏ اثنين اثنين ‏{‏وفرادى‏}‏ فرداً فرداً ‏{‏ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ‏}‏ في أمر محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، أما الاثنان فيتفكران ويعرض كل واحد منهما محصول فكره على صاحبه وينظران فيه نظر الصدق والإنصاف حتى يؤديهما النظر الصحيح إلى الحق، وكذلك الفرد يتفكر في نفسه بعدل ونصفة ويعرض فكره على عقله‏.‏

ومعنى تفرقهم مثنى وفرادى أن الاجتماع مما يشوش الخواطر ويعمي البصائر ويمنع من الروية ويقال الإنصاف فيه ويكثر الاعتساف ويثور عجاج التعصب ولا يسمع إلا نصرة المذهب‏.‏ و‏{‏تَتَفَكَّرُواْ‏}‏ معطوف على ‏{‏تَقُومُواْ‏}‏ ‏{‏مَا بصاحبكم‏}‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ‏{‏مّن جِنَّةٍ‏}‏ جنون‏.‏ والمعنى ثم تتفكروا فتعلموا ما بصاحبكم من جنة ‏{‏إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ قدام عذاب شديد وهو عذاب الآخرة وهو كقوله عليه السلام «بعثت بين يدي الساعة» ثم بين أنه لا يطلب أجراً على الإنذار بقوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 54‏]‏

‏{‏قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ‏(‏47‏)‏ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ‏(‏48‏)‏ قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ‏(‏49‏)‏ قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ ‏(‏50‏)‏ وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ ‏(‏51‏)‏ وَقَالُوا آَمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏52‏)‏ وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ ‏(‏53‏)‏ وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مّن أَجْرٍ‏}‏ على إنذاري وتبليغي الرسالة ‏{‏فَهُوَ لَكُمْ‏}‏ جزاء الشرط تقديره أي شيء سألتكم من أجر كقوله‏:‏ ‏{‏مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 2‏]‏ ومعناه نفي مسألة الأجر رأساً نحو مالي في هذا فهو لك أي ليس فيه شيء ‏{‏إِنْ أَجْرِىَ‏}‏ مدني وشامي وأبو بكر وحفص، وبسكون الياء‏:‏ غيرهم ‏{‏إِلاَّ عَلَى الله وَهُوَ على كُلّ شَئ شَهِيدٍ‏}‏ فيعلم أني لا أطلب الأجر على نصحيتكم ودعائكم إليه إلا منه‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ رَبّى يَقْذِفُ بالحق‏}‏ بالوحي‏.‏ والقذف توجيه السهم ونحوه بدفع واعتماد ويستعار لمعنى الإلقاء ومنه ‏{‏وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 26‏]‏ ‏{‏أَنِ اقذفيه فِى التابوت‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏ ومعنى يقذف بالحق يلقيه وينزله إلى أنبيائه أو يرمي به الباطل فيدمغه ويزهقه ‏{‏علام الغيوب‏}‏ مرفوع على البدل من الضمير في ‏{‏يَقْذِفُ‏}‏ أو على أنه خبر مبتدأ محذوف ‏{‏قُلْ جَاء الحق‏}‏ الإسلام والقرآن ‏{‏وَمَا يُبْدِئ الباطل وَمَا يُعِيدُ‏}‏ أي زال الباطل وهلك لأن الإبداء والإعادة من صفات الحي فعدمهما عبارة عن الهلاك، والمعنى جاء الحق وزهق الباطل كقوله ‏{‏جَاء الحق وَزَهَقَ الباطل‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 81‏]‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول الكعبة أصنام فجعل يطعنها بعود معه ويقول «جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد» وقيل‏:‏ الباطل الأصنام‏.‏ وقيل‏:‏ إبليس لأنه صاحب الباطل أو لأنه هالك كما قيل له الشيطان من شاط إذا هلك أي لا يخلق الشيطان ولا الصنم أحداً ولا يبعثه فالمنشيء والباعث هو الله‏.‏ ولما قالوا‏:‏ قد ضللت بترك دين آبائك قال الله تعالى ‏{‏قُلْ إِن ضَلَلْتُ‏}‏ عن الحق ‏{‏فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِى‏}‏ إن ضللت فمني وعليّ ‏{‏وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِى إِلَىَّ رَبّى‏}‏ أي فتبسديده بالوحي إلي‏.‏ وكان قياس التقابل أن يقال وإن اهتديت فإنما أهتدي لها كقوله‏:‏ ‏{‏فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 41‏]‏‏.‏ ولكن هما متقابلان معنى، لأن النفس كل ما عليها وضار لها فهو بها وبسببها لأنها الأمارة بالسوء، وما لها مما ينفعها فبهداية ربها وتوفيقه، وهذا حكم عام لكل مكلف، وإنما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه لأن الرسول إذا دخل تحته مع جلالة محله وسداد طريقته كان غيره أولى به ‏{‏إِنَّهُ سَمِيعٌ‏}‏ لما أقوله لكم ‏{‏قَرِيبٌ‏}‏ مني ومنكم يجازيني ويجازيكم‏.‏

‏{‏وَلَوْ تَرَى‏}‏ جوابه محذوف أي لرأيت أمراً عظيماً وحالاً هائلة ‏{‏إِذْ فَزِعُواْ‏}‏ عند البعث أو عند الموت أو يوم بدر ‏{‏فَلاَ فَوْتَ‏}‏ فلا مهرب أو فلا يفوتون الله ولا يسبونه ‏{‏وَأُخِذُواْ‏}‏ عطف على ‏{‏فَزِعُواْ‏}‏ أي فزعوا وأخذوا فلا فوت لهم أو على لا فوت على معنى إذ فزعوا فلم يفوتوا وأخذوا ‏{‏مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ من الموقف إلى النار إذا بعثوا أو من ظهر الأرض إلى بطنها إذا ماتوا أو من صحراء بدر إلى القليب ‏{‏وَقَالُواْ‏}‏ حين عاينوا العذاب ‏{‏آمَنَّا بِهِ‏}‏ بمحمد عليه السلام لمرور ذكره في قوله

‏{‏مَا بصاحبكم مّن جِنَّةٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 46‏]‏ أو بالله ‏{‏وأنى لَهُمُ التناوش مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ التناوش‏:‏ التناول أي كيف يتناولون التوبة وقد بعدت عنهم، يريد أن التوبة كانت تقبل منهم في الدنيا وقد ذهبت الدنيا وبعدت من الآخرة‏.‏ وقيل‏:‏ هذا تمثيل لطلبهم ما لا يكون وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، مثلت حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من غلوة كما يتناول الآخر من قيس ذراع‏.‏ ‏{‏التناؤش‏}‏ بالهمزة‏:‏ أبو عمرو وكوفي غير حفص همزت الواو لأن كل واو مضمومة ضمتها لازمة إن شئت أبدلتها همزة وإن شئت لم تبدل نحو قولك «أدور وتقاوم»، وإن شئت قلت «أدؤر وتقاؤم»‏.‏ وعن ثعلب‏:‏ التناؤش بالهمز التناول من بعد، وبغير همز التناول من قرب‏.‏ ‏{‏وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ‏}‏ من قبل العذاب أو في الدنيا ‏{‏وَيَقْذِفُونَ بالغيب‏}‏ معطوف على ‏{‏قَدْ كَفَرُواْ‏}‏ على حكاية الحال الماضية يعني وكانوا يتكلمون بالغيب أو بالشيء الغائب يقولون لا بعث ولا حساب ولا جنة ولا نار ‏{‏مِن مَّكَانِ بَعِيدٍ‏}‏ عن الصدق أو عن الحق والصواب، أو هو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم شاعر ساحر كذاب وهذا تكلم بالغيب والأمر الخفي لأنهم لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً‏.‏ وقد أتوا بهذا الغيب من جهة بعيدة من حاله لأن أبعد شيء مما جاء به السحر والشعر وأبعد شيء من عاداته التي عرفت بينهم وجربت الكذب ‏{‏وَيَقْذِفُونَ بالغيب‏}‏ عن أبي عمرو على البناء للمفعول أي تأتيهم به شياطينهم ويلقنونهم إياه وإن شئت فعلقه بقوله ‏{‏وَقَالُواْ ءامَنَّا بِهِ‏}‏ على أنه مثّلهم في طلبهم تحصيل ما عطلوه من الإيمان في الدنيا بقولهم ‏{‏آمنا‏}‏ في الآخرة وذلك مطلب مستبعد بمن يقذف شيئاً من مكان بعيد لا مجال للظن في لحوقه حيث يريد أن يقع فيه لكونه غائباً عنه بعيداً‏.‏

ويجوز أن يكون الضمير في ‏{‏آمنا به‏}‏ للعذاب الشديد في قوله‏:‏ ‏{‏بَيْنَ يَدَىْ عَذَابٍ شَدِيدٍ‏}‏ ‏[‏سبأ‏:‏ 46‏]‏‏.‏ وكانوا يقولون وما نحن بمعذبين إن كان الأمر كما تصفون من قيام الساعة والعقاب والثواب ونحن أكرم على الله من أن يعذبنا قائسين أمر الآخرة على أمر الدنيا، فهذا كان قذفهم بالغيب وهو غيب ومقذوف به من جهة بعيدة لأن دار الجزاء لا تنقاس على دار التكليف ‏{‏وَحِيلَ‏}‏ وحجز ‏{‏بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ‏}‏ من نفع الإيمان يومئذ والنجاة به من النار والفوز بالجنة أو من الرد إلى الدنيا كما حكي عنهم بقوله ‏{‏فارجعنا نَعْمَلْ صالحا‏}‏ ‏[‏السجدة‏:‏ 12‏]‏ والأفعال التي هي ‏{‏فَزِعُواْ‏}‏ ‏{‏وَأُخِذُواْ‏}‏ ‏{‏وَحِيلَ‏}‏ كلها للمضي والمراد بها الاستقبال لتحقق وقوعه ‏{‏كَمَا فُعِلَ بأشياعهم مّن قَبْلُ‏}‏ بأشباههم من الكفرة ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُواْ فِى شَكّ‏}‏ من أمر الرسل والبعث ‏{‏مُرِيبٍ‏}‏ موقع في الريبة من أرابه إذا أوقعه في الريبة، هذا رد على من زعم أن الله لا يعذب على الشك والله أعلم‏.‏

سورة فاطر

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 9‏]‏

‏{‏الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏1‏)‏ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ‏(‏2‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ‏(‏3‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ ‏(‏4‏)‏ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ‏(‏5‏)‏ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ‏(‏6‏)‏ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ‏(‏7‏)‏ أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏8‏)‏ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ ‏(‏9‏)‏‏}‏

‏{‏الحمد للَّهِ‏}‏ حمد ذاته تعليماً وتعظيماً ‏{‏فَاطِرِ السماوات‏}‏ مبتدئها ومبتدعها‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ما كنت أدري معنى الفاطر حتى اختصم إليّ أعرابيان في بئر فقال أحدهما‏:‏ أنا فطرتها‏.‏ أي ابتدأتها ‏{‏والأرض جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً‏}‏ إلى عباده ‏{‏أُوْلِى‏}‏ ذوي اسم جمع لذو وهو بدل من ‏{‏رُسُلاً‏}‏ أو نعت له ‏{‏أَجْنِحَةٍ‏}‏ جمع جناح ‏{‏مثنى وثلاث وَرُبَاعَ‏}‏ صفات لأجنحة، وإنما لم تنصرف لتكرر العدل فيها وذلك أنها عدلت عن ألفاظ الأعداد عن صيغ إلى صيغ أخر كما عدل عمر عن عامر وعن تكرير إلى غير تكرير‏.‏ وقيل‏:‏ للعدل والوصف والتعويل عليه، والمعنى أن الملائكة طائفة أجنحتهم اثنان اثنان أي لكل واحد منهم جناحان، وطائفة أجنحتهم ثلاثة ثلاثة، ولعل الثالث يكون في وسط الظهر بين الجناحين يمدهما بقوة، وطائفة أجنحتهم أربعة أربعة ‏{‏يَزِيدُ فِى الخلق‏}‏ أي يزيد في خلق الأجنحة وغيره ‏{‏مَا يَشَآءُ‏}‏ وقيل‏:‏ هو الوجه الحسن والصوت الحسن والشعر الحسن والخط الحسن والملاحة في العينين، والآية مطلقة تتناول كل زيادة في الخلق من طول قامة واعتدال صورة وتمام في الأعضاء وقوة في البطش وحصافة في العقل وجزالة في الرأي وذلاقة في اللسان ومحبة في قلوب المؤمنين وما أشبه ذلك ‏{‏إِنَّ الله على كُلِّ شَئ قَدِيرٌ‏}‏ قادر‏.‏

‏{‏مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ‏}‏ نكرت الرحمة للإشاعة والإبهام كأنه قال من أية رحمة رزق أو مطر أو صحة أو غير ذلك ‏{‏فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا‏}‏ فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها، واستعير الفتح للإطلاق والإرسال ألا ترى إلى قوله ‏{‏وَمَا يُمْسِكُ‏}‏ يمنع ويحبس ‏{‏فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ‏}‏ مطلق له ‏{‏مِن بَعْدِهِ‏}‏ من بعد إمساكه‏.‏ وأنث الضمير الراجع إلى الاسم المتضمن معنى الشرط على معنى الرحمة، ثم ذكره حملاً على اللفظ المرجع إليه إذ لا تأنيث فيه لأن الأول فسر بالرحمة فحسن اتباع الضمير التفسير، ولم يفسر الثاني فترك على أصل التذكير‏.‏ وعن معاذ مرفوعاً «لا تزال يد الله مبسوطة على هذه الأمة ما لم يرفق خيارهم بشرارهم ويعظم برهم فاجرهم وتعن قراؤهم أمراءهم على معصية الله فإذا فعلوا ذلك نزع الله يده عنهم»‏.‏ ‏{‏وَهُوَ العزيز‏}‏ الغالب القادر على الإرسال والإمساك ‏{‏الحكيم‏}‏ الذي يرسل ويمسك ما تقتضي الحكمة إرساله وإمساكه‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الناس اذكروا‏}‏ باللسان والقلب ‏{‏نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ‏}‏ وهي التي تقدمت من بسط الأرض كالمهاد، ورفع السماء بلا عماد، وإرسال الرسل لبيان السبيل دعوة إليه وزلفة لديه، والزيادة في الخلق وفتح أبواب الرزق‏.‏ ثم نبه على رأس النعم وهو اتحاد المنعم بقوله ‏{‏هَلْ مِنْ خالق غَيْرُ الله‏}‏ برفع ‏{‏غَيْرُ‏}‏ على الوصف لأن ‏{‏خالق‏}‏ مبتدأ خبره محذوف أي لكم‏.‏

وبالجر‏:‏ علي وحمزة على الوصف لفظاً ‏{‏يَرْزُقُكُمْ‏}‏ يجوز أن يكون مستأنفاً ويجوز أن يكون صفة ل ‏{‏خالق‏}‏ ‏{‏مِّنَ السمآء‏}‏ بالمطر ‏{‏والأرض‏}‏ بأنواع النبات ‏{‏لآ إله إِلاَّ هُوَ‏}‏ جملة مفصولة لا محل لها ‏{‏فأنى تُؤْفَكُونَ‏}‏ فبأي وجه تصرفون عن التوحيد إلى الشرك‏.‏ ‏{‏وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ‏}‏ نعى به على قريش سوء تلقيهم لآيات الله وتكذيبهم بها، وسلى رسوله بأن له في الأنبياء قبله أسوة ولهذا نكر ‏{‏رُسُل‏}‏ أي رسل ذوو عدد كبير وأولو آيات ونذر وأهل أعمال طوال وأصحاب صبر وعزم لأنه أسلى له، وتقدير الكلام وإن يكذبوك فتأس بتكذيب الرسل من قبلك لأن الجزاء يتعقب الشرط، ولو أجرى على الظاهر يكون سابقاً عليه‏.‏ ووضع ‏{‏فَقَدْ كُذّبَتْ رُسُلٌ مّن قَبْلِكَ‏}‏ موضع «فتأس» استغناء بالسبب عن المسبب أي بالتذكيب عن التأسي ‏{‏وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور‏}‏ كلام يشتمل على الوعد والوعيد من رجوع الأمور إلى حكمه ومجازاة المكذّب والمكذّب بما يستحقانه، ‏{‏ترجع‏}‏ بفتح التاء‏:‏ شامي وحمزة وعلي ويعقوب وخلف وسهل‏.‏

‏{‏يأَيُّهَا الناس إِنَّ وَعْدَ الله‏}‏ بالبعث والجزاء ‏{‏حَقٌّ‏}‏ كائن ‏{‏فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا‏}‏ فلا تخدعنكم الدنيا ولا يذهلنكم التمتع بها والتلذذ بمنافعها عن العمل للآخرة وطلب ما عند الله ‏{‏وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور‏}‏ أي الشيطان فإنه يمنِّيكم الأمانيّ الكاذبة ويقول إن الله غني عن عبادتك وعن تكذيبك‏.‏

‏{‏إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ‏}‏ ظاهر العداوة فعل بأبيكم ما فعل وأنتم تعاملونه معاملة من لا علم له بأحواله ‏{‏فاتخذوه عَدُوّاً‏}‏ في عقائدكم وأفعالكم ولا يوجَدنّ منكم إلا ما يدل على معاداته في سركم وجهركم‏.‏ ثم لخص سر أمره وخطأ من اتبعه بأن غرضه الذي يؤمه في دعوة شيعته هو أن يوردهم مورد الهلاك بقوله ‏{‏إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أصحاب السعير‏}‏‏.‏

ثم كشف الغطاء فبنى الأمر كله على الإيمان وتركه فقال ‏{‏الذين كَفَرُواْ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ أي فمن أجابه حين دعاه فله عذاب شديد لأنه صار من حزبه أي أتباعه ‏{‏والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ ولم يجيبوه ولم يصيروا من حزبه بل عادوه ‏{‏لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ‏}‏ لكبر جهادهم‏.‏ ولما ذكر الفريقين قال لنبيه عليه السلام ‏{‏أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَءَاهُ حَسَناً‏}‏ بتزيين الشيطان كمن لم يزين له فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لا، فقال ‏{‏فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حسرات‏}‏ وذكر الزجاج أن المعنى‏:‏ أفمن زين له سوء عمله ذهبت نفسك عليه حسرة، فحذف الجواب لدلالة ‏{‏فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ‏}‏ عليه، أو أفمن له سوء عمله كمن هداه الله فحذف لدلالة ‏{‏فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء‏}‏ عليه‏.‏

‏{‏فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ‏}‏‏:‏ يزيد أي لا تهلكها ‏{‏حسرات‏}‏ مفعول له يعني فلا تهلك نفسك للحسرات و‏{‏عَلَيْهِمْ‏}‏ صلة ‏{‏تَذْهَبْ‏}‏ كما تقول‏:‏ هلك عليه حباً ومات عليه حزناً‏.‏ ولا يجوز أن يتعلق ب ‏{‏حسرات‏}‏ لأن المصدر لا تتقدم عليه صلته ‏{‏إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ‏}‏ وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم ‏{‏والله الذى أَرْسَلَ الرياح‏}‏ ‏{‏الريح‏}‏‏:‏ مكي وحمزة وعلي ‏{‏فَتُثِيرُ سحابا فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ‏}‏ بالتشديد‏:‏ مدني وحمزة وعلي وحفص، وبالتخفيف‏:‏ غيرهم‏.‏ ‏{‏فَأَحْيَيْنَا بِهِ‏}‏ بالمطر لتقدم ذكره ضمناً ‏{‏الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا‏}‏ يبسها‏.‏ وإنما قيل ‏{‏فَتُثِيرُ‏}‏ لتحكي الحال التي تقع فيها إثارة الرياح السحاب وتستحضر تلك الصورة الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوع تمييز وخصوصية بحال تستغرب، وكذلك سوق السحاب إلى البلد الميت وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها‏.‏ لما كان من الدليل على القدرة الباهرة قيل فسقنا وأحيينا معدولاً بهما عن لفظ الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدل عليه ‏{‏كَذَلِكَ النشور‏}‏ الكاف في محل الرفع أي مثل إحياء الموت نشور الأموات قيل يحيي الله الخلق بما يرسله من تحت العرش كمني الرجال تنبت منه أجساد الخلق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏10- 14‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ ‏(‏10‏)‏ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ‏(‏11‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ‏(‏12‏)‏ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ ‏(‏13‏)‏ إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً‏}‏ أي العزة كلها مختصة، بالله عزة الدنيا وعزة الآخرة وكان الكافرون يتعززون بالأصنام كما قال‏:‏ ‏{‏واتخذوا مِن دُونِ الله ءَالِهَةً لّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 81‏]‏‏.‏ والذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعززون بالمشركين كما قال‏:‏ ‏{‏الذين يَتَّخِذُونَ الكافرين أَوْلِيَاء مِن دُونِ المؤمنين أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 139‏]‏‏.‏ فبين أن لا عزة إلا بالله‏.‏ والمعنى فليطلبها عند الله فوضع قوله ‏{‏لِلَّهِ العزة جَمِيعاً‏}‏ موضعه استغناء عنه به لدلالته عليه لأن الشيء لا يطلب إلا عند صاحبه وماله ونظير قولك‏:‏ «من أراد النصيحة فهي عند الأبرار»‏.‏ تريد فليطلبها عندهم إلا أنك أقمت مايدل عليه مقامه، وفي الحديث ‏"‏ إن ربكم يقول كل يوم أنا العزيز فمن أراد عز الدارين فليطع العزيز ‏"‏ ثم عرف أن ما يطلب به العزة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ‏}‏ ومعنى قوله ‏{‏إِلَيْهِ‏}‏ إلى محل القبول والرضا وكل ما اتصف بالقبول وصف بالرفعة والصعود، أو إلى حيث لا ينفذ فيه إلا حكمه والكلم الطيب كلمات التوحيد أي لا إله إلا الله‏.‏ وكان القياس الطيبة ولكن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا التاء يذكر ويؤنث‏.‏ والعمل الصالح العبادة الخالصة يعني والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب فالرافع الكلم والمرفوع العمل لأنه لا يقبل عمل إلا من موحد‏.‏ وقيل‏:‏ الرافع الله والمرفوع العمل أي العمل الصالح يرفعه الله، وفيه إشارة إلى أن العمل يتوقف على الرفع والكلم الطيب يصعد بنفسه‏.‏ وقيل‏:‏ العمل الصالح يرفع العامل ويشرفه أي من أراد العزة فليعمل عملاً صالحاً فإنه هو الذي يرفع العبد ‏{‏والذين يَمْكُرُونَ السيئات‏}‏ هي صفة لمصدر محذوف أي المكرات السيئات لأن مكر فعل غير متعدٍ، لا يقال مكر فلان عمله‏.‏ والمراد مكر قريش به عليه السلام حين اجتمعوا في دار الندوة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 130‏]‏ الآية ‏{‏لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ‏}‏ في الآخرة ‏{‏وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ‏}‏ مبتدأ ‏{‏هُوَ‏}‏ فصل ‏{‏يَبُورُ‏}‏ خبر أي ومكر أولئك الذين مكروا هو خاصة يبور أي يفسد ويبطل دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكة وقتلهم وأثبتهم في قليب بدر فجمع عليهم مكراتهم جميعاً حقق بهم‏.‏ قوله تعالى ‏{‏وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 30‏]‏ وقوله ‏{‏وَلاَ يَحِيقُ المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 43‏]‏‏.‏

‏{‏والله خَلَقَكُمْ‏}‏ أي أباكم ‏{‏مّن تُرَابٍ ثُمَّ‏}‏ أنشأكم ‏{‏مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أزواجا‏}‏ أصنافاً أو ذكراناً وإناثاً ‏{‏وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ‏}‏ هو في موضع الحال أي معلومة له ‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ‏}‏ أي وما يعمر من أحد‏.‏

وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه ‏{‏وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب‏}‏ يعني اللوح أو صحيفة الإنسان ولا ينقص زيد‏.‏ فإن قلت‏:‏ الإنسان إما معمر أي طويل العمر أو منقوص العمر أي قصيره، فأما أن يتعاقب عليه التعمير وخلافه فمحال فكيف صح قوله ‏{‏وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ‏}‏ قلت‏:‏ هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد وعليه كلام الناس يقولون‏:‏ لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق‏.‏ أو تأويل الآية أنه يكتب في الصحيفة عمره كذا كذا سنة ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان حتى يأتي على آخره فذلك نقصان عمره‏.‏ وعن قتادة‏:‏ المعمر من يبلغ ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة ‏{‏إِنَّ ذلك‏}‏ أي إحصاءه أو زيادة العمر ونقصانه ‏{‏عَلَى الله يَسِيرٌ‏}‏ سهل‏.‏

‏{‏وَمَا يَسْتَوِى البحران هذا‏}‏ أي أحدهما ‏{‏عَذْبٌ فُرَاتٌ‏}‏ شديد العذوبة‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يكسر العطش ‏{‏سَآئِغٌ شَرَابُهُ‏}‏ مريء سهل الانحدار لعذوبته وبه ينتفع شرّابه ‏{‏وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ‏}‏ شديد الملوحة‏.‏ وقيل‏:‏ هو الذي يحرق بملوحته ‏{‏وَمِن كُلِّ‏}‏ ومن كل واحد منهما ‏{‏تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً‏}‏ وهو السمك ‏{‏وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا‏}‏ وهي اللؤلؤ والمرجان ‏{‏وَتَرَى الفلك فِيهِ‏}‏ في كل ‏{‏مَوَاخِرَ‏}‏ شواقّ للماء بجريها‏.‏ يقال‏:‏ مخرت السفينة الماء أي شقته وهي جمع ماخرة ‏{‏لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ‏}‏ من فضل الله ولم يجر له ذكر في الآية ولكن فيما قبلها ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه ‏{‏وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ‏}‏ الله على ما أتاكم من فضله‏.‏ ضرب البحرين العذب والملح مثلين للمؤمن والكافر‏.‏ ثم قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين وما علّق بهما من نعمته وعطائه، ويحتمل غير طريق الاستطراد وهو أن يشبه الجنسين بالبحرين ثم يفضّل البحر الأجاج على الكافر بأنه قد شارك العذب في منافع من السمك واللؤلؤ وجري الفلك فيه‏.‏ والكافر خلو من النفع فهو في طريقة قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مّن بَعْدِ ذلك فَهِىَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً‏}‏ ثم قال ‏{‏وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الماء وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خشية الله‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 74‏]‏‏.‏

‏{‏يُولِجُ اليل فِى النهار وَيُولِجُ النهار فِى اليل‏}‏ يدخل من ساعات أحدهما في الآخر حتى يصير الزائد منهما خمس عشرة ساعة والناقص تسعاً ‏{‏وَسَخَّرَ الشمس والقمر‏}‏ أي ذلل أضواء صوره لاستواء سيره ‏{‏كُلٌّ يَجْرِى لأَِجَلٍ مُّسَمًّى‏}‏ أي يوم القيامة ينقطع جريهما ‏{‏ذلكم‏}‏ مبتدأ ‏{‏الله رَبُّكُمْ لَهُ الملك‏}‏ أخبار مترادفة أو ‏{‏الله رَبُّكُمُ‏}‏ خبر إن و‏{‏لَهُ الملك‏}‏ جملة مبتدأة واقعة في قران قوله ‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ يعني الأصنام التي تعبدونها من دون الله يدعون قتيبة ‏{‏مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ‏}‏ هي القشرة الرقيقة الملتفة على النواة ‏{‏إِن تَدْعُوهُمْ‏}‏ أي الأصنام ‏{‏لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ‏}‏ لأنهم جماد ‏{‏وَلَوْ سَمِعُواْ‏}‏ على سبيل الفرض ‏{‏مَا استجابوا لَكُمْ‏}‏ لأنهم لا يدّعون ما تدّعون لهم من الإلهية ويتبرءون منها ‏{‏وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ‏}‏ بإشراككم لهم وعبادتكم إياهم ويقولون ما كنتم إيانا تعبدون ‏{‏وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ‏}‏ ولا ينبئك أيها المفتون بأسباب الغرور كما ينبك الله الخبير بخبايا الأمور، وتحقيقه ولا يخبرك بالأمر مخبر هو مثل خبير عالم به يريد أن الخبير بالأمر وحده هو الذي يخبرك بالحقيقة دون سائر المخبرين به، والمعنى أن هذا الذي أخبرتكم به من حال الأوثان هو الحق لأني خبير بما أخبرت به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15- 28‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ‏(‏15‏)‏ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ ‏(‏16‏)‏ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ ‏(‏17‏)‏ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏18‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ‏(‏19‏)‏ وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ ‏(‏20‏)‏ وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ ‏(‏21‏)‏ وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ‏(‏22‏)‏ إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ ‏(‏23‏)‏ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ ‏(‏24‏)‏ وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ ‏(‏25‏)‏ ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ‏(‏26‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ ‏(‏27‏)‏ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله‏}‏ قال ذو النون‏:‏ الخلق محتاجون إليه في كل نفس وخطرة ولحظة وكيف لا ووجودهم به وبقاؤهم به‏!‏ ‏{‏والله هُوَ الغنى‏}‏ عن الأشياء أجمع ‏{‏الحميد‏}‏ المحمود بكل لسان، ولم يسمهم بالفقراء للتحقير بل للتعريض على الاستغناء ولهذا وصف نفسه بالغني الذي هو مطعم الأغنياء، وذكر الحميد ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه والجواد المنعم عليهم إذ ليس كل غني نافعاً بغناه إلا إذا كان الغني جواداً منعماً وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم‏.‏ قال سهل‏:‏ لما خلق الله الخلق حكم لنفسه بالغنى ولهم بالفقر، فمن ادعى الغنى حجب عن الله، ومن أظهر فقره أوصله فقره إليه‏.‏ فينبغي للعبد أن يكون مفتقراً بالسر إليه ومنقطعاً عن الغير إليه حتى تكون عبوديته محضة، فالعبودية هي الذل والخضوع وعلامته أن لا يسأل من أحد‏.‏ وقال الواسطي‏:‏ من استغنى بالله لا يفتقر ومن تعزز بالله لا يذل‏.‏ وقال الحسين‏:‏ على مقدار افتقار العبد إلى الله يكون غنياً بالله وكلما ازداد افتقاراً ازداد غنى‏.‏ وقال يحيى‏:‏ الفقر خير للعبد من الغنى لأن المذلة في الفقر والكبر في الغنى، والرجوع إلى الله بالتواضع، والذلة خير من الرجوع إليه بتكثير الأعمال‏.‏ وقيل‏:‏ صفة الأولياء ثلاثة‏:‏ الثقة بالله في كل شيء، والفقر إليه في كل شيء، والرجوع إليه من كل شيء‏.‏ وقال الشبلي‏:‏ الفقر يجر البلاء وبلاؤه كله عز‏.‏

‏{‏إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ‏}‏ كلكم إلى العدم فإن غناه بذاته لا بكم في القدم ‏{‏وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ‏}‏ وهو بدون حمدكم حميد ‏{‏وَمَا ذلك‏}‏ الأنشاء والإفناء ‏{‏عَلَى الله بِعَزِيزٍ‏}‏ بممتنع‏.‏ وعن ابن عباس‏:‏ يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئاً‏.‏ ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى‏.‏ والوزر والوقر أخوان، ووزر الشيء إذا حمله، والوازرة صفة للنفس، والمعنى أن كل نفس يوم القيامة لا تحمل إلا وزرها الذي اقترفته لا تؤاخذ نفس بذنب نفس كما تأخذ جبابرة الدنيا الولي بالولي والجار بالجار‏.‏ وإنما قيل ‏{‏وازرة‏}‏ ولم يقل ولا تزر نفس وزر أخرى، لأن المعنى أن النفوس الوازرات لا ترى منهن واحدة إلا حاملة وزرها لا وزر غيرها‏.‏ وقوله ‏{‏وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 13‏]‏ وارد في الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلال الناس مع أثقال ضلالهم وذلك كله أوزارهم ما فيها شيء من وزر غيرهم، ألا ترى كيف كذبهم الله تعالى في قولهم ‏{‏اتبعوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خطاياكم‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 12‏]‏ بقوله ‏{‏وَمَا هُمْ بحاملين مِنْ خطاياهم مّن شَئ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 12‏]‏ ‏{‏وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ‏}‏ أي نفس مثقلة بالذنوب أحداً ‏{‏إلى حِمْلِهَا‏}‏ ثقلها أي ذنوبها ليتحمل عنها بعض ذلك ‏{‏لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَئ وَلَوْ كَانَ‏}‏ أي المدعو وهو مفهوم من قوله ‏{‏وَإِن تَدْعُ‏}‏ ‏{‏ذَا قربى‏}‏ ذا قرابة قريبة كأب أو ولد أو أخ‏.‏

والفرق بين معنى قوله ‏{‏وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى‏}‏ ومعنى ‏{‏وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَئ‏}‏ أن الأول دال على عدل الله في حكمه وأن لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني في بيان أنه لا غياث يومئذ لمن استغاث حتى إن نفساً قد أثقلتها الأوزار لودعت إلى أن يخفف بعض وقرها لم تجب ولم تغث وإن كان المدعو بعض قرابتها ‏{‏إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ‏}‏ أي إنما ينتفع بإنذارك هؤلاء ‏{‏بالغيب‏}‏ حال من الفاعل أو المفعول أي يخشون ربهم غائبين عن عذابه، أو يخشون عذابه غائباً عنهم‏.‏ وقيل‏:‏ بالغيب في السر حيث لا اطلاع للغير عليه ‏{‏وَأَقَامُوا الصلاوة‏}‏ في مواقيتها ‏{‏وَمَن تزكى‏}‏ تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي ‏{‏فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ‏}‏ وهو اعتراض مؤكد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة لأنهما من جملة التزكي ‏{‏وإلى الله المصير‏}‏ المرجع وهو وعد للمتزكي الثواب‏.‏ ‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الأعمى والبصير‏}‏ مثل للكافر والمؤمن أو للجاهل والعالم‏.‏

‏{‏وَلاَ الظلمات‏}‏ مثل للكفر ‏{‏وَلاَ النور‏}‏ للإيمان ‏{‏وَلاَ الظل وَلاَ الحرور‏}‏ الحق والباطل أو الجنة والنار‏.‏ والحرور الريح الحار كالسموم إلا أن السموم تكون بالنهار والحرور بالليل والنهار‏.‏ عن الفراء ‏{‏وَمَا يَسْتَوِى الأحيآء وَلاَ الأموات‏}‏ مثل للذين دخلوا في الإسلام والذين لم يدخلوا فيه وزيادة‏.‏ «لا» لتأكيد معنى النفي‏.‏ والفرق بين هذه الواوات أن بعضها ضمت شفعاً إلى شفع وبعضها وتراً إلى وتر ‏{‏إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِى القبور‏}‏ يعني أنه قد علم من يدخل في الإسلام ممن لا يدخل فيه فيهدي من يشاء هدايته، وأما أنت فخفي عليك أمرهم فلذلك تحرص على إسلام قوم مخذولين‏.‏ شبه الكفار بالموتى حيث لا ينتفعون بمسموعهم ‏{‏إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ‏}‏ أي ما عليك إلا أن تبلغ وتنذر فإن كان المنذر ممن يسمع الإنذار نفع وإن كان من المصرين فلا عليك ‏{‏إِنَّا أرسلناك بالحق‏}‏ حال من أحد الضميرين يعني محقاً أو محقين أو صفة للمصدر أي إرسالاً مصحوباً بالحق ‏{‏بَشِيراً‏}‏ بالوعد ‏{‏وَنَذِيرًا‏}‏ بالوعيد ‏{‏وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ‏}‏ وما من أمة قبل أمتك‏.‏ والأمة‏:‏ الجماعة الكثيرة وجد عليه أمة من الناس ويقال لأهل كل عصر أمة، والمراد هنا أهل العصر وقد كانت آثار النذارة باقية فيما بين عيسى ومحمد عليهما السلام فلم تخل تلك الأمم من نذير، وحين اندرست آثار نذارة عيسى عليه السلام بعث محمد عليه السلام ‏{‏إِلاَّ خَلاَ‏}‏ مضى ‏{‏فِيهَا نَذِيرٌ‏}‏ يخوفهم وخامة الطغيان وسوء عاقبة الكفران، واكتفى بالنذير عن البشير في آخر الآية بعدما ذكرهما لأن النذارة مشفوعة بالبشارة فدل ذكر النذارة على ذكر البشارة‏.‏

‏{‏وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ رسلهم ‏{‏جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم‏}‏ حال و«قد» مضمرة ‏{‏بالبينات‏}‏ بالمعجزات ‏{‏وبالزبر‏}‏ وبالصحف ‏{‏وبالكتاب المنير‏}‏ أي التوراة والإنجيل والزبور‏.‏ ولما كانت هذه الأشياء في جنسهم أسند المجيء بها إليهم إسناداً مطلقاً وإن كان بعضها في جميعهم وهي البينات وبعضها في بعضهم وهي الزبر والكتاب وفيه مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏ثُمَّ أَخَذْتُ‏}‏ عاقبت ‏{‏الذين كَفَرُواْ‏}‏ بأنواع العقوبة ‏{‏فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ‏}‏ إنكاري عليهم وتعذيبي لهم ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ‏}‏ بالماء ‏{‏ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا‏}‏ أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يحصر أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها ‏{‏وَمِنَ الجبال جُدَدٌ‏}‏ طرق مختلفة جدة كمدة ومدد ‏{‏بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ ألوانها وَغَرَابِيبُ سُودٌ‏}‏ جمع غربيب وهو تأكيد للأسود‏.‏ يقال‏:‏ أسود غربيب وهو الذي أبعد في السواد وأغرب فيه ومنه الغراب‏.‏ وكان من حق التأكيد أن يتبع المؤكد كقولك «أصفر فاقع» إلا أنه أضمر المؤكد قبله والذي بعده تفسير للمضمر، وإنما يفصل ذلك لزيادة التوكيد حيث يدل على المعنى الواحد من طريقي الإظهار والإضمار جميعاً، ولا بد من تقدير حذف المضاف في قوله ‏{‏وَمِنَ الجبال جُدَدٌ‏}‏ أي ومن الجبال ذو جدد بيض وحمر وسود حتى يؤول إلى قولك‏:‏ ومن الجبال مختلف ألوانه كما قال ‏{‏ثمرات مختلفاً ألوانها‏}‏‏.‏

‏{‏وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ ألوانه‏}‏ يعني ومنهم بعض مختلف ألوانه ‏{‏كذلك‏}‏ أي كاختلاف الثمرات والجبال‏.‏ ولما قال ‏{‏أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاء‏}‏ وعدد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعته وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس وما يستدل به عليه وعلى صفاته، أتبع ذلك ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماؤا‏}‏ أي العلماء به الذين علموه بصفاته فعظموه ومن ازداد علماً به ازداد منه خوفاً ومن كان علمه به أقل كان آمن‏.‏ وفي الحديث ‏"‏ أعلمكم بالله أشدكم له خشية ‏"‏ وتقديم اسم الله تعالى وتأخير العلماء يؤذن أن معناه أن الذين يخشون الله من عباده العلماء دون غيرهم ولو عكس لكان المعنى أنهم لا يخشون إلا الله كقوله‏:‏ ‏{‏وَلاَ يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ الله‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 39‏]‏ وبينهما تغاير، ففي الأول بيان أن الخاشين هم العلماء، وفي الثاني بيان أن المخشي منه هو الله تعالى‏.‏ وقرأ أبو حنيفة وابن عبد العزيز وابن سيرين رضي الله عنهم ‏{‏إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء‏}‏ والخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى إنما يعظم الله من عباده العلماء ‏{‏إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ‏}‏ تعليل لوجوب الخشية لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم والمعاقب المثيب حقه أن يخشى‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 37‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ ‏(‏29‏)‏ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏30‏)‏ وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ ‏(‏31‏)‏ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ‏(‏32‏)‏ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ‏(‏33‏)‏ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ‏(‏34‏)‏ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ ‏(‏35‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ ‏(‏36‏)‏ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين يَتْلُونَ كتاب الله‏}‏ يداومون على تلاوة القرآن ‏{‏وَأَقَامُواْ الصلاة وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً‏}‏ أي مسرين النفل ومعلنين الفرض يعني لا يقتنعون بتلاوته عن حلاوة العمل به ‏{‏يَرْجُونَ‏}‏ خبر «إنّ» ‏{‏تجارةً‏}‏ هي طلب الثواب بالطاعة ‏{‏لَّن تَبُورَ‏}‏ لن تكسد يعني تجارة ينتفى عنها الكساد وتنفق عند الله ‏{‏لِيُوَفّيَهُمْ‏}‏ متعلق ب ‏{‏لَّن تَبُورَ‏}‏ أي ليوفيهم بنفاقها عنده ‏{‏أُجُورَهُمْ‏}‏ ثواب أعمالهم ‏{‏وَيَزِيدَهُم مّن فَضْلِهِ‏}‏ بتفسيح القبور أو بتشفيعهم فيمن أحسن إليهم أو بتضعيف حسناتهم أو بتحقيق وعد لقائه‏.‏ أو ‏{‏يَرْجُونَ‏}‏ في موضع الحال أي راجين‏.‏ واللام في ‏{‏لِيُوَفّيَهُمْ‏}‏ تتعلق ب ‏{‏يَتْلُونَ‏}‏ وما بعده أي فعلوا جميع ذلك من التلاوة وإقامة الصلاة والإنفاق لهذا الغرض وخبر «إنّ» ‏{‏إِنَّهُ غَفُورٌ‏}‏ لفرطاتهم ‏{‏شَكُورٍ‏}‏ أي غفورٌ لهم شكور لأعمالهم أي يعطي الجزيل على العمل القليل ‏{‏والذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الكتاب‏}‏ أي القرآن‏.‏ و«من» للتبيين ‏{‏هُوَ الحق مُصَدّقاً‏}‏ حال مؤكدة لأن الحق لا ينفك عن هذا التصديق ‏{‏لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ‏}‏ لما تقدمه من الكتب ‏{‏إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ‏}‏ فعلمك وأبصر أحوالك ورآك أهلاً لأن يوحي إليك مثل هذا الكتاب المعجز الذي هو عيار على سائر الكتب‏.‏

‏{‏ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب‏}‏ أي أوحينا إليك القرآن ثم أورثناه من بعدك أي حكمنا بتوريثه ‏{‏الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ وهم أمته من الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم إلى يوم القيامة لأن الله اصطفاهم على سائر الأمم وجعلهم أمة وسطاً ليكونوا شهداء على الناس، واختصهم بكرامة الإنتماء إلى أفضل رسله‏.‏ ثم رتبهم على مراتب فقال ‏{‏فَمِنْهُمْ ظالم لّنَفْسِهِ‏}‏ وهو المرجأ لأمر الله ‏{‏وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ‏}‏ هو الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ‏{‏وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات‏}‏ وهذا التأويل يوافق التنزيل فإنه تعالى قال‏:‏ ‏{‏والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 100‏]‏ الآية وقال بعده‏:‏ ‏{‏وَءَاخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 102‏]‏ الآية وقال بعده‏:‏ ‏{‏وَءَاخَرُونَ مُرْجَوْنَ لاْمْرِ الله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 106‏]‏ الآية‏.‏ والحديث فقد رُوي عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد قراءة هذه الآية‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ سابقنا سابق ومقتصدنا ناج وظالمنا مغفور له ‏"‏ وعنه عليه السلام‏:‏ ‏"‏ السابق يدخل الجنة بغير حساب، والمقتصد يحاسب حساباً يسيراً ثم يدخل الجنة، وأما الظالم لنفسه فيحبس حتى يظن أنه لا ينجو ثم تناله الرحمة فيدخل الجنة ‏"‏ رواه أبو الدرداء‏.‏

والأثر فعن ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ السابق المخلص، والمقتصد المرائي، والظالم الكافر بالنعمة غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة‏.‏ وقول السلف فقد قال الربيع بن أنس‏:‏ الظالم صاحب الكبائر، والمقتصد صاحب الصغائر، والسابق المجتنب لهما‏.‏

وقال الحسن البصري‏:‏ الظالم من رجحت سيئاته، والسابق من رجحت حسناته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته‏.‏ وسئل أبو يوسف رحمه الله عن هذه الآية فقال‏:‏ كلهم مؤمنون، وأما صفة الكفار فبعد هذا وهو قوله‏:‏ ‏{‏والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ‏}‏ وأما الطبقات الثلاث فهم الذين اصطفى من عباده فإنه قال‏:‏ ‏{‏فَمِنْهُمْ‏}‏ ‏{‏وَمِنْهُمُ‏}‏ ‏{‏وَمِنْهُمُ‏}‏ والكل راجع إلى قوله ‏{‏الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا‏}‏ وهم أهل الإيمان وعليه الجمهور‏.‏ وإنما قدم الظالم للإيذان بكثرتهم وأن المقتصدين قليل بالإضافة إليهم والسابقون أقل من القليل‏.‏ وقال ابن عطاء‏:‏ إنما قدم الظالم لئلا ييأس من فضله‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قدمه ليعرّفه أن ذنبه لا يبعده من ربه‏.‏ وقيل‏:‏ إن أول الأحوال معصية ثم توبة ثم استقامة‏.‏ وقال سهل‏:‏ السابق العالم والمقتصد المتعلم والظالم الجاهل‏.‏ وقال أيضاً‏:‏ السابق الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد الذي اشتغل بمعاشه ومعاده، والظالم الذي اشتغل بمعاشه عن معاده‏.‏ وقيل‏:‏ الظالم الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق الذي يعبده على الهيبة والاستحقاق‏.‏ وقيل‏:‏ الظالم من أخذ الدنيا حلالاً كانت أو حراماً، والمقتصد من يجتهد أن لا يأخذها إلا من حلال، والسابق من أعرض عنها جملة‏.‏ وقيل‏:‏ الظالم طالب الدنيا، والمقتصد طالب العقبي، والسابق طالب المولى ‏{‏بِإِذُنِ الله‏}‏ بأمره أو بعلمه أو بتوفيقه ‏{‏ذلك‏}‏ أي إيراث الكتاب ‏{‏هُوَ الفضل الكبير*جنات عَدْنٍ‏}‏ خبر ثان ل ‏{‏ذلك‏}‏ أو خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ والخبر ‏{‏يَدْخُلُونَهَا‏}‏ أي الفرق الثلاثة ‏{‏يَدْخُلُونَهَا‏}‏‏:‏ أبو عمرو ‏{‏يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏ جمع أسورة جمع سوار ‏{‏مّن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً‏}‏ أي من ذهب مرصع باللؤلؤ ‏{‏ذَهَبٍ‏}‏ بالنصب والهمزة‏:‏ نافع وحفص عطفاً على محل ‏{‏مِنْ أَسَاوِرَ‏}‏ أي يحلون أساور ولؤلؤاً ‏{‏وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ‏}‏ لما فيه من اللذة والزينة‏.‏

‏{‏وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن‏}‏ خوف النار أو خوف الموت أو هموم الدنيا ‏{‏إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ‏}‏ يغفر الجنايات وإن كثرت ‏{‏شَكُورٌ‏}‏ يقبل الطاعات وإن قلت ‏{‏الذى أَحَلَّنَا دَارَ المقامة‏}‏ أي الإقامة لا نبرح منها ولا نفارقها يقال أقمت إقامة ومقاماً ومقامة ‏{‏مِن فَضْلِهِ‏}‏ من عطائه وإفضاله لا باستحقاقنا ‏{‏لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ‏}‏ تعب ومشقة ‏{‏وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ‏}‏ إعياء من التعب وفترة‏.‏ وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي ‏{‏لغُوبٌ‏}‏ بفتح اللام وهو شيء يلغب منه أي لا نتكلف عملاً يلغبنا ‏{‏والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ‏}‏ جواب النفي ونصبه بإضمار «أن» أي لا يقضى عليهم بموت ثانٍ فيستريحوا ‏{‏وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مّنْ عَذَابِهَا‏}‏ من عذاب نار جهنم ‏{‏كذلك‏}‏ مثل ذلك الجزاء ‏{‏نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ‏}‏ ‏{‏يجزى كُلَّ كَفُورٍ‏}‏‏:‏ أبو عمرو ‏{‏وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا‏}‏ يستغيثون فهو يفتعلون من الصراخ وهو الصياح بجهد ومشقة، واستعمل في الاستغاثة لجهر صوت المستغيث ‏{‏رَبَّنَا‏}‏ يقولون ربنا ‏{‏أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صالحا غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ‏}‏ أي أخرجنا من النار ردنا إلى الدنيا نؤمن بدل الكفر ونطع بعد المعصية فيجاوبون بعد فدر عمر الدنيا ‏{‏أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ‏}‏ يجوز أن يكون «ما» نكرة موصوفة أي تعميراً يتذكر فيه من تذكر وهو متناول لكل عمر تمكن فيه المكلف من إصلاح شأنه وإن قصر، إلا أن التوبيخ في المتطاول أعظم‏.‏

ثم قيل‏:‏ هو ثمان عشرة سنة‏.‏ وقيل‏:‏ أربعون‏.‏ وقيل‏:‏ ستون سنة ‏{‏وَجَاءكُمُ النذير‏}‏ الرسول عليه السلام أو المشيب وهو عطف على معنى ‏{‏أَوَلَمْ نُعَمّرْكُمْ‏}‏ لأن لفظه لفظ استخبار ومعناه إخبار كأنه قيل‏:‏ قد عمرناكم وجاءكم النذير ‏{‏فَذُوقُواْ‏}‏ العذاب ‏{‏فَمَا للظالمين مِن نَّصِيرٍ‏}‏ ناصر يعينهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 45‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ‏(‏38‏)‏ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا ‏(‏39‏)‏ قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آَتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا ‏(‏40‏)‏ إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏41‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا ‏(‏42‏)‏ اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّةَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا ‏(‏43‏)‏ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا ‏(‏44‏)‏ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله عالم غَيْبِ السماوات والأرض‏}‏ ما غاب فيهما عنكم ‏{‏إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور‏}‏ كالتعليل لأنه إذا علم ما في الصدور وهو أخفى ما يكون فقد علم كل غيب في العالم‏.‏ وذات الصدور مضمراتها وهي تأنيث ذو في نحو قول أبي بكر رضي الله عنه‏:‏ ذو بطن خارجة جاريةٌ‏.‏ أي ما في بطنها من الحبل لأن الحبل يصحب البطن‏.‏ وكذا المضمرات تصحب الصدور وذو موضوع لمعنى الصحبة ‏{‏هُوَ الذى جَعَلَكُمْ خلائف فِى الأرض‏}‏ يقال للمستخلف خليفة ويجمع على خلائف، والمعنى أنه جعلكم خلفاء في أرضه قد ملككم مقاليد التصرف فيها وسلطكم على ما فيها وأباح لكم منافعها لتشكروه بالتوحيد والطاعة ‏{‏فَمَن كَفَرَ‏}‏ منكم وغمط مثل هذه النعمة السنية ‏{‏فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ‏}‏ فوبال كفره راجع عليه وهو مقت الله وخسار الآخرة كما قال ‏{‏وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً‏}‏ وهو أشد البغض ‏{‏وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَسَاراً‏}‏ هلاكاً وخسراناً ‏{‏قُلْ أَرَءَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ‏}‏ آلهتكم التي أشركتموهم في العباد ‏{‏الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِى مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض‏}‏ ‏{‏أَرُونِىَ‏}‏ بدل من ‏{‏أَرَءَيْتُمْ‏}‏ أخبروني كأنه قيل‏:‏ أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الشركة، أروني أي جزء من أجزاء الأرض استبدوا بخلقه دون الله‏؟‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِى السماوات‏}‏ أم لهم مع الله شركة في خلق السماوات ‏{‏أَمْ ءاتيناهم كتابا فَهُمْ على بينات مِّنْهُ‏}‏ أي معهم كتاب من عند الله ينطق أنهم شركاؤه فهم على حجة وبرهان من ذلك الكتاب‏.‏ ‏{‏بينات‏}‏ علي وابن عامر ونافع وأبو بكر ‏{‏بَلْ إِن يَعِدُ‏}‏ ما يعد ‏{‏الظالمون بَعْضُهُم‏}‏ بدل من ‏{‏الظالمون‏}‏ وهم الرؤساء ‏{‏بَعْضًا‏}‏ أي الأتباع ‏{‏إِلاَّ غُرُوراً‏}‏ هو قولهم ‏{‏هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ‏}‏ يمنعهما من أن تزولا لأن الإمساك منع ‏{‏وَلَئِن زَالَتَآ‏}‏ على سبيل الفرض ‏{‏إِنْ أَمْسَكَهُمَا‏}‏ ما أمسكهما ‏{‏مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ‏}‏ من بعد إمساكه‏.‏ و«من» الأولى مزيدة لتأكيد النفي والثانية للابتداء ‏{‏إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ غير معاجل بالعقوبة حيث يمسكهما وكانتا جديرتين بأن تهدَّا هدًّا لعظم كلمة الشرك كما قال ‏{‏تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 90‏]‏ الآية‏.‏

‏{‏وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم‏}‏ نصب على المصدر أي إقساماً بليغاً أو على الحال أي جاهدين في أيمانهم ‏{‏لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم‏}‏ بلغ قريشاً قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا‏:‏ لعن الله اليهود والنصارى أتتهم الرسل فكذبوهم فوالله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم أي من الأمة التي يقال فيها هي إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة كما يقال للداهية العظيمة هي إحدى الدواهي ‏{‏فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ‏}‏ فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏{‏مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً‏}‏ أي ما زادهم مجيء الرسول صلى الله عليه وسلم إلا تباعداً عن الحق وهو إسناد مجازي ‏{‏استكبارا فِى الأرض‏}‏ مفعول له وكذا ‏{‏وَمَكْرَ السيئ‏}‏ والمعنى وما زادهم إلا نفوراً للاستنكار ومكر السيء، أو حال يعني مستكبرين وماكرين برسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأصل قوله ومكر السيء وأن مكروا السيء أي المكر السيء، ثم ومكراً السيء ثم ومكر السيء والدليل عليه وقوله ‏{‏وَلاَ يَحِيقُ‏}‏ يحيط وينزل ‏{‏المكر السيئ إِلاَّ بِأَهْلِهِ‏}‏ ولقد حاق بهم يوم بدر وفي المثل «من حفر لأخيه جباً وقع فيه مكباً ‏{‏فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتُ الأولين‏}‏ وهو إنزال العذاب على الذين كذبوا برسلهم من الأمم قبلهم، والمعنى فهل ينظرون بعد تكذيبك إلا أن ينزل بهم العذاب مثل الذي نزل بمن قبلهم من مكذبي الرسل، جعل استقبالهم لذلك انتظاراً له منهم ‏{‏فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً‏}‏ بين أن سنته التي هي الانتقام من مكذبي الرسل سنة لا يبدلها في ذاتها ولا يحولها عن أوقاتها وأن ذلك مفعول لا محالة‏.‏

‏{‏أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِى الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عاقبة الذين مِن قَبْلِهِمْ‏}‏ استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام واليمن والعراق من آثار الماضين وعلامات هلاكهم ودمارهم ‏{‏وَكَانُواْ أَشَدَّ مِنْهُمْ‏}‏ من أهل مكة ‏{‏قُوَّةَ‏}‏ اقتداراً فلم يتمكنوا من الفرار ‏{‏وَمَا كَانَ الله لِيُعْجِزَهُ‏}‏ ليسبقه ويفوته ‏{‏مِن شَئ‏}‏ أيّ شيء ‏{‏فِى السماوات وَفِى الارض إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً‏}‏ بهم ‏{‏قَدِيراً‏}‏ قادراً عليهم ‏{‏وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ‏}‏ بما اقترفوا من المعاصي ‏{‏مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا‏}‏ على ظهر الأرض لأنه جرى ذكر الأرض في قوله ‏{‏لِيُعْجِزَهُ مِن شَئ فِى السماوات وَلاَ فِى الأرض‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 44‏]‏ ‏{‏مِن دَآبَّةٍ‏}‏ من نسمة تدب عليها ‏{‏ولكن يُؤَخِرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى‏}‏ إلى يوم القيامة ‏{‏فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً‏}‏ أي لم تخف عليه حقيقة أمرهم وحكمة حكمهم والله الموفق للصواب‏.‏